ثقافة

الحراطين في موريتانيا وإشكالية الهوية

تُعد قضية لحراطين من أعقد الإشكاليات الاجتماعية والسياسية في موريتانيا، إذ إن مظلوميتهم حقيقية ولا ينكرها إلا جاحد، لكنها ليست استثناءً إذا ما قورنت بمعاناة فئات واسعة أخرى من مكونات المجتمع الموريتاني التي تتقاسم معهم دوائر الفقر والتهميش والجهل، من أبناء البظان بمختلف فئاتهم، سواء من طبقة الأسياد أو الزوايا أو الفئات الكادحة من لحمة وصناع تقليديين وازناكه وغيرهم.

لكن ما زاد تعقيد هذه القضية هو توظيفها من طرف بعض اللوبيات ذات الأجندات العابرة للحدود، التي حولت معاناة هذه الفئة إلى أداة ضغط سياسية تسعى من خلالها لتحقيق مكاسب تخصها وحدها. ينتمي هذا اللوبي في معظمه إلى إثنية معروفة بتاريخ طويل من محاولات السيطرة على دول الساحل الإفريقي، رغم أنها لا تملك في أي منها أغلبية عددية تضمن لها الوصول إلى السلطة منفردة، فتختار بدلاً من ذلك تفجير الصراعات الداخلية وركوب موجة الانقلابات الفاشلة.

وقد سبق لهذه الفئة منذ بدايات الاستقلال أن تحالفت مع بقايا المستعمر ومن ارتبط بهم من أفراد كانوا في معظمهم من دهماء المجتمع أو من أبناء سفاح ينسبون إلى جنود الاستعمار، وتربوا في مدن سنغالية مثل سانت لويس وغيرها، ليعودوا بعدها بواجهة جديدة يقدمون أنفسهم بها كطليعة «تنويرية». لم يكتفوا بذلك، بل سعوا إلى استقطاب بعض مثقفي لحراطين لإيهامهم بهوية زائفة ومصطنعة، متجاهلين أن لحراطين ليسوا كتلة إثنية صافية؛ إذ إن بعضهم من أصول زنوج باعهم أسيادهم في زمن الرق، بينما ينتمي آخرون إلى أصول غير زنجية إطلاقاً، مما يجعل فكرة صياغة «هوية لحراطينية» موحدة أمراً شديد التعقيد، إن لم يكن مستحيلاً من الأصل. فالحبل الذي شُدّ به الأرقاء إلى أسواق النخاسة لا يمكن أن يتحول إلى أساس هوية جامعة.

من جهة أخرى، فإن التحريض الإعلامي وبعض الأفلام الدعائية التي يتراقص على إيقاعها متطرفو هذه الحركات الحقوقية، لن يكون في صالح لحراطين أنفسهم، بل قد يدفع إلى تقسيم التراب الوطني، تحت وهم تجميع إثنية الفلان الموزعة بين السنغال ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي إثنية تعاني هي الأخرى من القتل والتهجير. وفي حال نجاح هذا المخطط – لا قدر الله – فلن يكون البظان هم الضحية، إذ سيجدون من يحتضنهم من أشقاء المغرب والجزائر بحكم الروابط العميقة، بينما سيظل لحراطين وحدهم في مهب الريح بلا سند ولا هوية واضحة.

ويكفي لمن يشكك في ذلك أن ينظر إلى الواقع الطبقي الذي يحكم المجتمعات الزنجية نفسها: فلا زواج بين الفلان والسونينكي والولوف واتكارير، ولا حتى مدافن مشتركة، رغم تكرار شعارات الوحدة العرقية الكاذبة.

أمام كل هذا، تبقى المسؤولية اليوم في أعناق النخب الموريتانية كلها — بظاناً، لحراطين، وزنوجاً — إذ عليهم أن يدركوا أن وحدة الدولة واستقرارها أكبر من أي استغلال سياسي عابر، وأن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية يبدأ بإعادة تأسيس الدولة على أسس المواطنة الشاملة، وإصلاح منظومة الحكم والإدارة، وتجويد التعليم، وتفعيل قضاء نزيه، ومحاربة الفقر والفساد بكل أشكاله.

عندها فقط يمكن لكل موريتاني، مهما كان لونه أو طبقته أو أصله، أن يعتز بهويته الوطنية الجامعة بعيداً عن أوهام الهويات المستوردة والولاءات المفروضة.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى