الدولار الأميركي في مرمى العاصفة: تفكك الركائز وتراجع الهيمنة

في واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ الاقتصاد العالمي، يُسجل الدولار الأميركي أسوأ أداء نصف سنوي له منذ قرابة أربعة عقود، في مؤشر مقلق على تراجع الهيمنة التي حافظت عليها العملة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فخسارة الدولار نحو 10% من قيمته خلال النصف الأول من عام 2025 ليست مجرد اضطراب عابر، بل هي تعبير عميق عن خلل هيكلي يضرب أسس المشروع الاقتصادي الأميركي، ويعيد رسم ملامح النظام النقدي الدولي.
بداية الهيمنة: من بريتون وودز إلى البترودولار
انطلقت هيمنة الدولار من اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944، حين خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة الاقتصادية الأبرز في العالم. جرى حينها ربط العملات العالمية بالدولار، والأخير بالذهب، مما منح العملة الأميركية شرعية غير مسبوقة. لاحقًا، ومع انهيار هذا النظام في السبعينيات، لعب “اتفاق البترودولار” عام 1974 دورًا محوريًا في تعزيز الموقع العالمي للدولار، عبر فرض تسعير النفط عالميًا بهذه العملة، وهو ما خلق طلبًا مستدامًا عليها حتى من خارج المنظومة الأميركية.
لكن الواقع الجديد يشير إلى انزياح تدريجي عن هذا النموذج، بفعل خمس ركائز أساسية بدأت في التآكل بشكل مقلق.
النموذج التجاري الأميركي.. اهتزاز الداخل يربك الخارج
الاقتصاد الأميركي، الذي بلغ حجمه نهاية 2024 نحو 29.2 تريليون دولار، قام لعقود على نموذج تجاري مفتوح، مدعوم باستهلاك ضخم (يمثل 68.8% من الناتج المحلي)، وقطاع خدمات يشكل العمود الفقري للاقتصاد (80% من الناتج المحلي). لكن هذا النموذج بدأ يتعرض لضغوطات عميقة:
تراجع ثقة المستهلك.
اضطراب سلاسل الإمداد.
تصاعد الحمائية التجارية في عهد الرئيس ترامب، مما يضعف التجارة الدولية التي تمثل ربع الاقتصاد.
وهذه التحولات تُضعف الدولار، لأنه الأداة المركزية التي قام عليها هذا النموذج الاقتصادي المعولم.
تآكل الشرعية المؤسسية.. أزمة الثقة تضرب العمق الأميركي
لم يعد الأمر اقتصاديًا بحتًا، بل سياسيًا ومؤسسيًا. فمع عودة ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025، تصاعدت حالة الاستقطاب السياسي، وتعرضت مؤسسات الدولة لموجة من التشكيك والتقليص، أبرزها تسريح 260 ألف موظف فدرالي في الأشهر الأولى، وضغوط علنية على مجلس الاحتياطي الفدرالي للتدخل في أسعار الفائدة.
هذا المساس باستقلالية المؤسسات المالية والنقدية، أضعف الثقة الداخلية والخارجية، وهي من الدعائم الأساسية لقوة الدولار. الأسواق لا تنظر للأرقام فقط، بل إلى الجهة التي تصدرها ودرجة مصداقيتها.
العجز المالي والدين العام.. قنبلة موقوتة تهدد النظام
بلغ الدين العام الأميركي 37 تريليون دولار، مع عجز مالي تخطى 1.4 تريليون خلال ثمانية أشهر فقط من السنة المالية. ورغم إيرادات حكومية وصلت إلى 5 تريليونات، فإن الإنفاق تجاوز 7 تريليونات، مع تخصيص أكثر من 25% من الإيرادات لسداد فوائد الدين.
وقد ساهمت خطط الخفض الضريبي الكبرى في تعميق الفجوة، وسط غياب خطة إصلاح حقيقية. وانخفض التصنيف الائتماني السيادي لأميركا، في إشارة إلى تراجع ثقة الأسواق في قدرة الحكومة على ضبط الإنفاق.
- تراجع التحالفات وتسييس الاقتصاد.. انسحاب الثقة العالمية
كانت قوة الدولار تستند أيضًا إلى مكانة أميركا باعتبارها القائد العالمي لتحالفات اقتصادية وعسكرية واسعة. إلا أن السياسات الانعزالية والانسحابات المتكررة من الاتفاقيات الدولية أدت إلى فقدان الثقة.
في المقابل، بدأت دول عدة التحول نحو أنظمة تسوية بديلة، منها:
دول جنوب شرق آسيا التي كثّفت التسويات بالعملات المحلية.
البرازيل التي طرحت نظام دفع بديل داخل تحالف “بريكس”.
روسيا والصين اللتان تجاوزتا الدولار في نصف تبادلاتهما.
هذا الانسحاب التدريجي لم يعد توجهًا هامشيًا، بل صار مسارًا عالميًا لتقليل الاعتماد على الدولار كأداة ضغط سياسية.
- تباطؤ النمو الاقتصادي.. انعكاس لهشاشة داخلية
بعد نمو 2.5% في 2024، دخل الاقتصاد الأميركي في انكماش بنسبة -0.3% بالربع الأول من 2025، مع توقعات لا تتجاوز 1.4% للعام بأكمله، ما يعكس أزمة ثقة عميقة في البنية الاقتصادية، ويقلص جاذبية الدولار كعملة ملاذ.
ويؤكد هذا التراجع ضعف قدرة الاقتصاد الأميركي على تحمل الديون وقيادة النمو العالمي، مما يُفقد الدولار أحد أبرز مقوماته كعملة موثوقة وآمنة.
الأرقام تحسم الجدل: الدولار يتراجع فعليًا
مؤشرات الأسواق ترسم صورة واضحة:
انخفاض الدولار بنسبة 10% حتى منتصف 2025، أسوأ أداء منذ 1986.
أعلى مستويات المضاربات ضد الدولار منذ عامين.
انسحاب مؤسسي متسارع، أبرزها صناديق تقاعد أوروبية قللت انكشافها على الدولار بنحو 37 مليار دولار.
استطلاعات تشير إلى تراجع الثقة لدى كبار المستثمرين وصناديق الاستثمار.
في الختام: الدولار مرآة الاقتصاد الأميركي.. ومؤشر على تحولات عميقة
تراجع الدولار ليس حادثًا عابرًا، بل مرآة لسلسلة من التحولات البنيوية: من ضعف النمو والعجز المالي، إلى تآكل الثقة المؤسسية والتخبط الجيوسياسي. وإذا استمرت الولايات المتحدة في مسارها الحالي دون إصلاحات هيكلية جذرية، فقد لا يكون انهيار الدولار مسألة “هل”، بل “متى”.
إن العالم لم يعد يرى في الدولار ملاذًا، بل عبئًا يرتبط بسياسات أميركية لم تعد تضمن ولاء المرتبطين به منذ كان في غوج ازدهار.