موريتانيا: من تشخيص الداء إلى مقاربات العلاج بقلم: حمادي سيدي محمد آباتي

سؤال الهوية.. ما زال معلقًا
رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، لم يُحسم بعد سؤال الهوية الوطنية. المواطن الموريتاني لم يُحدد رسميًا إلا مؤخرًا، بعد إدخال نظام الهوية البيومترية، وحتى ذلك تم وسط شكوك واسعة حول الشمولية والعدالة.
بدلًا من التأسيس لمواطنة تقوم على المساواة والحقوق، طغت الانتماءات القبلية والجهوية والفئوية، ما أدى إلى تعميق الانقسام وتكريس التمييز البنيوي. وهكذا تحوّلت التعددية الثقافية، التي كان يمكن أن تكون عنصر ثراء، إلى عامل تفتت وفرقة.
ديمقراطية الواجهة وسلطة الخوف
النظام السياسي الموريتاني يعاني مفارقة صارخة: ديمقراطية شكلية تُستخدم لتجميل الصورة أمام الخارج، وسلطة فعلية تُدار بالخوف والزبونية والتخويف. المواطن بين مطرقة القمع وسندان الفقر، بينما تُدار الدولة كشبكة مصالح مغلقة، لا تخضع للرقابة الفعلية ولا للمحاسبة.
غياب الطبقة الوسطى القوية والناضجة أدى إلى ضعف المجتمع المدني، وغياب أي حراك مجتمعي فاعل يمكنه الضغط من أجل التغيير أو حتى فرض الإصلاح.
الشرعية المزدوجة.. الدولة في مواجهة القبيلة
من أبرز مظاهر الاختلال في التجربة الموريتانية، استمرار التنافس بين شرعية القانون والمؤسسات، وشرعية القبيلة والجهة. القرارات الكبرى، من التعيينات إلى التوظيف والصفقات، لا تزال تُتخذ بمنطق الانتماء لا الكفاءة.
هذا التداخل بين الدولة الحديثة وبُنى المجتمع التقليدي يُفشل أي محاولة إصلاح، ويُعيد إنتاج نفس أنماط السلطة، مهما تغيرت الوجوه والخطابات.
ثروات تُنهب.. وشعب يُقهر
رغم ما تزخر به البلاد من ثروات طبيعية: الذهب، الحديد، الصيد، الغاز… إلا أن الفقر لا يزال سمة عامة. المواطن البسيط يرزح تحت ثلاثية مدمرة: الجهل، الفقر، والمرض.
في المقابل، تستأثر أقلية ضيقة بخيرات البلد، من خلال منظومة فساد محكمة، تجعل الدولة وسيلة نهب، لا أداة تنمية. وهكذا، يتكرس الإقصاء، ويُفرغ مفهوم الدولة من مضامينه الاجتماعية.
هل من مخرج؟
لا يمكن الحديث عن تغيير حقيقي دون الاعتراف بعمق الأزمة، والانطلاق من مقاربة صادقة تتضمن ما يلي:
تفكيك البنى التقليدية للسلطة، وفصل المؤسسات عن الولاءات الضيقة.
بناء مواطنة جامعة، يتساوى فيها الجميع أمام القانون والفرص.
إصلاح حقيقي للتعليم، كمدخل أساس لبناء وعي جديد قادر على مساءلة السلطة.
إحياء طبقة وسطى فاعلة، يمكن أن تكون رافعة لحراك وطني متوازن.
بلورة مشروع وطني جامع، يتجاوز الاصطفافات الضيقة، ويُعيد الاعتبار لقيم المواطنة والعدالة والمساواة.
خاتمة
موريتانيا ليست فقيرة في الإمكانيات، لكنها تعاني من فقر في التخطيط، وشح في الإرادة السياسية الصادقة. ولعل الخطوة الأولى في مسار الإصلاح هي الكف عن تجميل الواقع، ومصارحة الذات بأن ما نعيشه ليس ديمقراطية، بل صورة مشوشة منها.
آن الأوان لأن نبدأ رحلة بناء دولة تستحقها أجيالنا القادمة، دولة تنتمي للمستقبل، لا للماضي …