الولايات المتحدة بين الريادة والتحولات: من العولمة إلى الانكفاء

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية إستراتيجية شاملة قامت على مجموعة من الركائز الأساسية، التي أسهمت في صعودها إلى مصاف القوى العظمى، ومن ثمّ حفاظها على مكانة رائدة في النظام الدولي لعقود طويلة. هذه الركائز مكنتها من أن تصبح القوة الاقتصادية والسياسية الأبرز عالميًا.
الانفتاح والتوسع الاقتصادي
من أبرز تلك الركائز كان الانفتاح الاقتصادي والتجاري، حيث سعت الولايات المتحدة إلى مد جسور التعاون مع دول العالم، فأسست شبكة علاقات اقتصادية وتجارية واسعة عززت نفوذها وأتاحت لها فرص التأثير في مختلف الأقاليم.
كما رسخت منذ نشأتها مبادئ دولة القانون والمؤسسات، ما منحها سمعة دولية بوصفها دولة تحترم الاتفاقيات والقوانين، وفتح أمامها أبواب التعاون المستدام مع شركاء دوليين. وإلى جانب ذلك، اتبعت سياسة جذب الكفاءات والمواهب من مختلف دول العالم، حتى تحوّلت إلى “أرض الفرص” للمبدعين والطموحين، ما انعكس إيجابًا على تنوعها الثقافي ونموها الاقتصادي.
مرحلة التحول مع ترامب
لكن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة شكّل نقطة تحول في السياسة الأميركية، داخليًا وخارجيًا، إذ بدأت ملامح الانكفاء والانغلاق تطغى على سياسات واشنطن. وقد أثّرت هذه التوجهات سلبًا على ركائز القوة التي طالما بنت عليها أميركا نفوذها واستقرارها، مما أضعف ثقة العالم في النظام الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لسنوات.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تحليل هذه التحولات لفهم تداعياتها على مستقبل مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى.
الركيزة الأولى: العولمة والانفتاح
العولمة تعني التكامل المتزايد بين اقتصادات وثقافات العالم، وتسهيل حركة السلع ورؤوس الأموال والمعلومات والأفراد بين الدول. وهي عملية أساسية في تقليص الحواجز، وتوسيع الأسواق، وتبادل التكنولوجيا والمعرفة، بما يجعل العالم أكثر ارتباطًا.
الدور الأميركي في دعم العولمة
منذ القرن العشرين، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة في طليعة الدول الداعمة للعولمة، وسعت من خلال سياستها التجارية والدبلوماسية إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية الدولية. وقد ساهمت بشكل رئيسي في تأسيس منظمات دولية مثل “صندوق النقد الدولي” و”منظمة التجارة العالمية”، اللتين شكّلتا البنية التحتية للتجارة الحرة في العالم.
الشركات الأميركية كأدوات نفوذ
أصبحت الشركات الأميركية الكبرى مثل “مايكروسوفت”، “آبل”، و”كوكاكولا” أدوات اقتصادية فاعلة في استراتيجية التوسع الأميركي، مستفيدة من العولمة في توسيع وجودها على الساحة الدولية. وهذا التوسع لم يكن مجرد نشاط تجاري، بل تحول إلى نفوذ سياسي واقتصادي أميركي مؤثر، حيث يشكل القطاع الخاص نحو 70% إلى 75% من الناتج المحلي الأميركي.
الريادة التكنولوجية
كما ساعدت العولمة الولايات المتحدة في ترسيخ ريادتها في مجالات التكنولوجيا والابتكار، فقد استفادت شركات مثل “غوغل” و”فيسبوك” من التوسع العالمي لتفرض سيطرتها على الأسواق الرقمية، وتحوّلت إلى منصات مركزية في الاقتصاد الرقمي العالمي.
لكن هذا النموذج بدأ يتعرض لتحديات غير مسبوقة في ظل سياسات الرئيس ترامب، التي اتسمت بالمزيد من الانغلاق والمواجهة، ما ألقى بظلاله على قطاعات حيوية، خصوصًا قطاع التكنولوجيا.
التجارة الحرة والازدهار
حرية التجارة شكّلت ركيزة مركزية في النمو الاقتصادي الأميركي، حيث أسهمت في رفع حجم الصادرات والواردات، وفتحت أسواق أوروبا وآسيا أمام المنتجات الأميركية. هذا الانفتاح دعم القدرة التنافسية وساهم في رفع مستوى المعيشة للمواطن الأميركي من خلال توفير منتجات بأسعار مناسبة.
كما أن القطاع الخاص الأميركي يمثل المصدر الرئيسي للوظائف، إذ يعمل فيه ما يقرب من 85% إلى 90% من الأميركيين.
الفكر الأميركي والعولمة
ارتبط الفكر الأميركي، الذي يركّز على الحريات الفردية والملكية الخاصة والتنوع الثقافي، بمنظومة العولمة، وساهم في تسويق صورة الولايات المتحدة باعتبارها حامية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ورغم ما جنته من مكاسب من هذا التوجه، فإن السياسات التي انتهجها الرئيس ترامب تمثل تهديدًا جوهريًا لهذا الإرث، مع ما تحمله من توجهات قومية واقتصادية متطرفة، تقوّض أسس الانفتاح وتؤثر على استقرار الولايات المتحدة ومكانتها عالميًا.
الحروب التجارية.. تهديد للنظام الاقتصادي العالمي
شهد العالم في السنوات الأخيرة تصاعدًا للحروب التجارية، التي تتجلى في فرض رسوم جمركية وقيود على الواردات لحماية الصناعات المحلية. هذه السياسات تتناقض مع مبادئ العولمة وتحرير التجارة.
وبلغ حجم التجارة العالمي في عام 2024 نحو 33 تريليون دولار، لكن الحروب التجارية تهدد ما تم بناؤه من منظومة اقتصادية متكاملة، ويصف البعض سياسات ترامب التجارية بأنها “تسونامي تجاري” سيخلّف آثارًا كارثية على الاقتصاد العالمي.
أبرز التأثيرات:
على الشركات:
- انخفاض أرباح المصدرين.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب الرسوم.
- اضطراب سلاسل التوريد.
- تكدس الإنتاج وتراجع الطلب.
- تسريح الموظفين.
- تغييرات في خطوط الإنتاج.
- إفلاسات محتملة.
على المستهلكين:
- ارتفاع أسعار السلع.
- تغيير في الأنماط الاستهلاكية.
- انخفاض الطلب في بعض القطاعات.
على الاقتصاد الكلي:
- تباطؤ في الناتج المحلي الإجمالي.
- احتمالات ركود اقتصادي.
- هبوط في أسواق المال.
- ارتفاع معدلات البطالة.
الركيزة الثانية: الالتزام بالتحالفات والاتفاقيات
شكّل احترام الولايات المتحدة لالتزاماتها الدولية أحد أعمدة قوتها الناعمة، وعزز مكانتها كقوة قيادية في النظام الدولي. هذا الالتزام كان عاملًا في استقرار الأسواق وجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة العالمية بها.
غير أن هذا التوجه شهد تراجعًا واضحًا مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، حيث بدأت الولايات المتحدة تتراجع عن بعض تحالفاتها، وتنسحب من اتفاقات دولية رئيسية، مما أثار مخاوف من اهتزاز ثقة الحلفاء والشركاء في مصداقيتها كقوة عالمية مسؤولة.