مدن وبلدان

الجمهورية الإسلامية الموريتانية: النشأة والتطور

تعتبر الجمهورية الإسلامية الموريتانية دولة فريدة بموقعها الجغرافي وتركيبتها الاجتماعية وتاريخها الحافل بالتحولات.

تمتد جذورها الحضارية إلى عمق التاريخ، حيث شكلت نقطة التقاء بين العالم العربي والإفريقي. هذا البحث الشامل يتتبع مسيرة موريتانيا منذ النشأة حتى عام 2025، مع التركيز على التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، وإبراز أهم الشخصيات التي ساهمت في بناء الدولة وتنميتها.

سنستعرض في هذا العمل الأكاديمي الظروف التاريخية التي أدت إلى تأسيس الدولة الحديثة، والتحديات التي واجهتها، والإنجازات التي حققتها، مع تحليل معمق للسياسات التنموية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة وخاصة في عهد الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني.

النشأة والتأسيس التاريخي

تعود جذور الوجود البشري في الأراضي الموريتانية الحالية إلى العصور الحجرية، حيث تشير الأدلة الأثرية إلى أن المنطقة لم تكن دائماً صحراوية كما هي اليوم.

فقد كشفت النقوش الصخرية عن أدوات استخدمها الإنسان القديم، مما يؤكد أن البلاد كانت غنية بالمياه وتضم أنهاراً جفت بمرور الزمن بسبب التغيرات المناخية .

اشتق اسم “موريتانيا” من مملكة موريطنية الأمازيغية القديمة التي كانت تقع في شمال إفريقيا.

وقد أطلق الفينيقيون اسم “مورو” على القبائل البدوية الأمازيغية التي سكنت الصحراء.

وفي العصر القرطاجي والروماني، أُطلق هذا الاسم على منطقة شمال إفريقيا كلها، حيث كانت توجد دولتان قديمتان تحملان هذا الاسم: موريتانيا القيصرية وموريتانيا الطنجية .

عرف الرحالة العرب موريتانيا بعدة أسماء منها “بلاد شنقيط” و”صحراء الملثمين” و”بلاد لمتونة”، كما وردت في كتابات الجغرافيين العرب باسم “بلاد أنبية”.

أما عامة السكان فكانوا يسمونها “أرض البيضان” في مقابل “أرض السودان” الواقعة جنوبها .

مراحل التطور التاريخي:

  1. ما قبل الإسلام: سكنت المنطقة قبائل من السودان قادمة من الجنوب، ثم استوطنتها لاحقاً قبائل أمازيغية متفرعة من صنهاجة .
  2. الفتح الإسلامي: وصل العرب إلى المنطقة في أواخر القرن السابع الميلادي خلال العهد الأموي، حيث نشروا الإسلام واللغة العربية والثقافة الإسلامية .
  3. الدول الإسلامية: شهدت المنطقة قيام عدة إمارات ودول إسلامية مثل دولة المرابطين التي أسسها عبد الله بن ياسين في القرن الحادي عشر الميلادي.
  4. الاستعمار الفرنسي: في أوائل القرن العشرين، استعمرت فرنسا موريتانيا كجزء من غرب إفريقيا الفرنسي، حيث أعادت إحياء اسم “موريتانيا” من خلال الحملة الفرنسية بقيادة كزافييه كابولاني .
  5. مرحلة الاستقلال: حصلت موريتانيا على استقلالها عن فرنسا في 28 نوفمبر 1960، وأصبح المختار ولد داداه أول رئيس للجمهورية .

المسار السياسي بعد الاستقلال

شهدت موريتانيا منذ استقلالها عام 1960 مساراً سياسياً مضطرباً تميز بالانقلابات العسكرية والفترات الانتقالية.

كان أول انقلاب عسكري في عام 1978 أطاح بالرئيس المؤسس المختار ولد داداه، ليبدأ عهد من عدم الاستقرار السياسي .

أبرز المحطات السياسية:

  • 1978-1984: فترة من الانقلابات المتتالية وتناوب القيادات العسكرية على الحكم.
  • 1984-2005: حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع الذي استمر 21 عاماً قبل أن يطاح به بانقلاب عسكري.
  • 2005-2007: فترة انتقالية قصيرة قادها المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية.
  • 2007-2008: انتخاب سيدي ولد الشيخ عبد الله كأول رئيس مدني منذ عقود، لكنه أطيح به بعد عام بانقلاب قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز .
  • 2009-2019: حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي فاز في انتخابات 2009 و2014 وسط انتقادات من المعارضة.
  • 2019-حتى الآن: انتخاب محمد ولد الشيخ الغزواني رئيساً في أول انتقال سلمي للسلطة منذ الاستقلال، حيث تولى الرئاسة في أغسطس 2019 .

يُعتبر وصول الرئيس الغزواني إلى السلطة نقطة تحول في التاريخ السياسي الموريتاني، حيث تميزت فترة حكمه بمحاولات جادة لبناء دولة المؤسسات وتعزيز الحكم الرشيد.

وقد أكد الرئيس الغزواني في خطاباته على رؤيته لـ”وطن يوحد كل أبنائه برباط مواطنة جمهورية متين، قوامه المساواة في الكرامة وفي الحقوق وفي الواجبات” .

البناء المؤسسي وإصلاح القطاع العام (2019-2025)

شهدت الفترة من 2019 إلى 2025 جهوداً حثيثة لبناء دولة المؤسسات وتعزيز الحكم الرشيد في موريتانيا. تمثلت الركائز الأساسية لرؤية الرئيس الغزواني في خمسة محاور رئيسية:

  1. بناء دولة قانون ومؤسسات قوية ذات حكامة عصرية رشيدة
  2. خلق اقتصاد قوي الأداء صامد ومستدام بيئياً
  3. تطوير رأس مال بشري ذي تكوين وتأهيل جيدين خاصة فئة الشباب
  4. توفير الظروف لوحدة وطنية قوية واندماج اجتماعي متكامل
  5. ضمان الأمن والاستقرار وتعزيز الحضور الإقليمي والدولي

الإصلاحات المؤسسية والقضائية:

أطلقت الحكومة الموريتانية خلال هذه الفترة سلسلة من الإصلاحات الشاملة في القطاع القضائي والإداري، تمثلت في:

  • إصلاح النظام القضائي: تنفيذ وثيقة إصلاح العدالة، وتعزيز استقلالية القضاء، وتحسين وضعية مهنيي العدالة، والحد من النقص في العنصر البشري. كما تم إنشاء محاكم جهوية لقضاء القصر وإكمال مراجعة مدونة الإجراءات المدنية والتجارية .
  • رقمنة الإجراءات القضائية: شهد عام 2024 تقدماً ملحوظاً في هذا المجال، حيث تم إعداد أنظمة رقمية لتسيير خدمات السجل الجنائي والعدالة التجارية والجنائية .
  • تطوير البنية التحتية العدلية: وضعت الحكومة خطة للحد من استئجار المقرات العدلية عبر برنامج واسع لبناء مقرات المحاكم، خاصة محاكم المقاطعات. كما تم العمل على بناء عشرات المحاكم في جميع أنحاء البلاد وإعادة تأهيل العديد منها .
  • إنشاء مؤسسات متخصصة: تم إصدار القانون المنشئ للمحكمة المتخصصة في محاربة العبودية والاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، وتعيين رئيسها وهيئاتها .

تعزيز الحريات العامة وحقوق الإنسان:

حققت موريتانيا تقدماً ملحوظاً في مجال حرية الصحافة، حيث احتلت المرتبة الأولى في إفريقيا والعالم العربي والمرتبة 33 عالمياً في عام 2024، كما جاءت في المرتبة العاشرة عالمياً في أمن الصحفيين . ويعود هذا التقدم إلى الإصلاحات التي نفذتها الحكومة في مجال الإعلام، بما في ذلك:

  • اعتماد مشاريع قوانين جديدة تتعلق بالصحفي المهني وتنظيم الاتصال السمعي البصري
  • تنظيم الدعم العمومي للصحافة الخاصة
  • الانضمام إلى مبادرة الشراكة الدولية من أجل الإعلام والديمقراطية

مكافحة الفساد وإصلاح الإدارة:

أدرجت الحكومة مكافحة الفساد كأولوية في برنامجها، حيث اتخذت عدة إجراءات منها:

  • إنشاء سلطة وطنية لمحاربة الفساد تتمتع بالاستقلالية والصلاحيات الكاملة
  • إصدار نصوص تطبيقية للقوانين المتعلقة بالتصريح بالممتلكات ومحاربة الفساد
  • إصلاح نظام الصفقات العمومية.
  • الاقتصاد الموريتاني: تحولات تنموية ومسارات مستقبلية (2025)
    اقتصاد في طور التحول
    يشهد الاقتصاد الموريتاني تحولات جذرية في العقد الحالي، حيث انتقل من الاعتماد التقليدي على قطاعات الصيد والزراعة والثروة الحيوانية إلى اقتصاد أكثر تنوعاً وتكاملاً مع التركيز على الثروات المعدنية والطاقة.
  • هذا التحول يأتي في إطار رؤية استراتيجية 2030 التي تهدف إلى تحقيق نمو شامل ومستدام، مع التركيز على تعزيز دور القطاع الخاص كقاطرة للتنمية .
    الهيكل الاقتصادي والتحولات الرئيسية
    1. القطاعات التقليدية: أساس الاقتصاد
    الصيد البحري: يمثل العمود الفقري للاقتصاد، حيث تساهم الصادرات السمكية بنحو 50% من إجمالي الصادرات . شهد القطاع تطوراً ملحوظاً مع تعزيز التعاون مع السنغال في مراقبة الصيد والتفتيش الصحي .
    الزراعة والرعي: تعتمد عليها نسبة كبيرة من السكان رغم محدودية الأراضي الصالحة للزراعة (0.5% فقط من المساحة الكلية) .
    2. القطاعات الناشئة: محركات النمو الجديدة
    الموارد المعدنية: تحتل موريتانيا المرتبة الثانية أفريقياً في إنتاج الحديد عبر شركة “اسنيم”، كما تمتلك احتياطيات كبيرة من الذهب والنحاس .
    الطاقة: يشهد قطاع الطاقة طفرة غير مسبوقة مع:
    مشروع “غراند تورتو أميم” (GTA) للغاز المشترك مع السنغال، الذي بدأ الإنتاج في النصف الثاني من 2025 .
    اكتشافات جديدة للغاز قبالة السواحل الموريتانية .
    التوسع في الطاقة المتجددة حيث وصلت حصتها إلى 34% من الاستهلاك الطاقوي عام 2020، مع خطة للوصول إلى 50% بحلول 2030 .
    3. مؤشرات اقتصادية رئيسية (2023-2025):
    المؤشر
    2023
    2024 (متوقع)
    2025 (متوقع)
    الناتج المحلي الإجمالي
    10.45 مليار دولار
    11.13 مليار دولار
    11.69 مليار دولار
    معدل النمو
    6.5%
    4.6%
    4.2%
    التضخم
    2.7%
    2.7%
    2%
    الدين العام/الناتج
    47.2%

    انخفاض متوقع
    الديناميات السكانية والتنمية البشرية
    التركيبة السكانية:
    عدد السكان: ~4.9 مليون نسمة (2023)
    الكثافة السكانية: 5 نسمة/كم² (من الأقل عالمياً)
    التوزيع: 61.2% في المناطق الحضرية
    معدل النمو السكاني: 2.5% سنوياً
    مؤشرات التنمية البشرية:
    مؤشر التنمية البشرية: 0.556 (متوسط)
    معدل البطالة: 31% (2014)
    الفقر: 26.9% متوقع في 2025 (انخفاض من 33%)
    التعليم: 4.2 سنة تعليم متوقع للطفل
    الصحة: 25% من الأطفال يعانون من التقزم
    الدين والنسيج الاجتماعي
    الإسلام: دين الدولة وهوية المجتمع
    الانتماء الديني: 100% من السكان مسلمون سنة
    التأثير الحضاري: يمزج المجتمع بين المكونات العربية والأمازيغية والإفريقية، مع هيمنة الثقافة الإسلامية على الحياة العامة
    التعددية العرقية:
    البيضان (عرب وأمازيغ): 30%
    الحراطين: 40%
    مجموعات إفريقية جنوب الصحراء: 30%
    السياسات التنموية والإصلاحات
    1. الرؤية الاستراتيجية 2030:
    تنويع القاعدة الاقتصادية
    تعزيز الحوكمة الرشيدة
    الاستثمار في رأس المال البشري
    2. إصلاحات رئيسية:
    المالية العامة: اعتماد قاعدة الميزانية الأولية غير الاستخراجية (3.5% من الناتج)
    القطاع المصرفي: تعزيز الاستقرار المالي
    الاستثمار: قانون استثمار جديد لتحسين المناخ الاستثماري
    الحماية الاجتماعية: برنامج “تكافل” يغطي 128,658 أسرة فقيرة
    3. مشاريع تنموية كبرى:
    الهيدروجين الأخضر: مشروع طموح لتصدير الطاقة النظيفة
    البنية التحتية: جسر روصو مع السنغال، تطوير المدن الوسيطة
    الرقمنة: تعميم الهوية الرقمية، تحويل الخدمات الحكومية
    التحديات والفرص
    التحديات:
    الاعتماد على السلع الأولية (80% من الصادرات)
    التأثر بالتقلبات المناخية (الجفاف والفيضانات)
    مخاطر أمنية إقليمية (منطقة الساحل)
    بطالة الشباب المرتفعة
    الفرص:
    الثروات الطبيعية (غاز، معادن، طاقات متجددة)
    الموقع الاستراتيجي (بوابة إفريقيا إلى أوروبا)
    الاستقرار السياسي النسبي (أول انتقال سلمي للسلطة 2019)
    الخاتمة: نحو مستقبل أكثر إشراقاً
    تمثل موريتانيا نموذجاً للدولة التي تسعى جاهدة لتحقيق التوازن بين الاستفادة من مواردها الطبيعية والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. رغم التحديات التي تواجهها، إلا أن المؤشرات الاقتصادية الإيجابية والإصلاحات الهيكلية التي تنفذها الحكومة تبشر بمستقبل أفضل. مع بدء إنتاج الغاز في 2025 والتوسع في الطاقة المتجددة.
  • قد تشهد موريتانيا تحولاً جذرياً في السنوات القادمة، مما يمكنها من تحقيق قفزة تنموية حقيقية تعود بالنفع على جميع مواطنيها .

زر الذهاب إلى الأعلى