الصناعة الأفغانية تحت الحصار: المصانع تتوقف والاقتصاد يترنح وسط أزمات خانقة

في شوارع العاصمة كابل، التي لطالما تميزت بحركة صناعية نشطة وفرت لقمة العيش لآلاف العائلات، تخفت تدريجيا أصوات الآلات في المصانع الصغيرة والمتوسطة، مع تفاقم أزمة اقتصادية تهدد شرايين الإنتاج.
فمنذ عودة حركة طالبان إلى الحكم في أغسطس/آب 2021، انكمش الاقتصاد الأفغاني بنسبة 27%، مدفوعًا بعقوبات دولية قاسية وتجميد للأصول، إضافة إلى أزمات داخلية مزمنة، أبرزها انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار الوقود، مما دفع القطاع الصناعي إلى حافة الشلل، رغم المحاولات الحكومية لإنقاذه.
تراجع الإنتاج وتصاعد التكاليف
أرقام البنك الدولي تشير إلى تقلص القطاع الصناعي بنسبة 5.7% عام 2022، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على توقف عدد من المصانع في كابل أو تقليص إنتاجها بشكل كبير، في ظل نقص المواد الخام وغياب التمويل وارتفاع حاد في تكاليف التشغيل.
يقول أحمد فريد، صاحب مصنع أغذية في المنطقة الصناعية بـ”ده سبز”، للجزيرة نت: “كنا ننتج 10 أطنان يومياً، أما اليوم فلا نعمل بأكثر من 30% من طاقتنا. أسعار الزيوت والسكر قفزت 40%، ما رفع تكلفة الإنتاج وخفض الطلب المحلي بشكل مؤلم”.
من جهته، يوضح عبد البصير تره كي، صاحب مصنع أحذية في كابل، أن المواد الخام المستوردة من إيران والصين باتت باهظة الثمن، في حين تهيمن البضائع المستوردة على السوق. ويطالب برفع الرسوم الجمركية على الواردات لحماية المنتجات المحلية، مشيراً إلى أن أكثر من نصف مصانع الأحذية أغلقت أبوابها خلال العامين الماضيين.
في عام 2024، وصلت قيمة الواردات إلى 10.8 مليارات دولار، مدفوعة بارتفاع واردات المواد المعدنية بنسبة 56%، والكيماويات بنسبة 51%، والمواد الغذائية بنسبة 28%. في المقابل، ارتفعت أسعار الوقود 35% منذ 2022، مما زاد من الأعباء على الصناعيين.
أزمة الكهرباء… شلل في قلب الإنتاج
يتفاقم الوضع مع الانقطاع المزمن للكهرباء. فالمناطق الصناعية في كابل تعاني منذ أكثر من 10 أيام من نقص حاد في الطاقة، ما أدى إلى توقف أو تقليص نشاط عدد كبير من المصانع.
يقول روح الله محمدي، مدير مصنع للأغذية: “لا نحصل إلا على 5 إلى 6 ساعات من الكهرباء يومياً، وهي غير مستقرة، مما أجبرنا على تشغيل مولدات مرتفعة التكلفة، زادت من خسائرنا وأثّرت سلباً على جودة الإنتاج”.
ويضيف مزمل نيكبين، مدير مصنع لمواد البناء: “الإنتاج انخفض إلى النصف، وتأخرت عمليات التسليم للعملاء. نطالب بتوفير تيار كهربائي منتظم لإنقاذ الصناعة المحلية”.
أما حميد الله عمري، المدير التنفيذي لمصنع “شيتا” للرقائق، فأكد توقف العمل كليًا منذ أسبوعين بسبب انقطاع الكهرباء، مما جعل 50 موظفًا عاطلين عن العمل.
صناعة متنوعة تنهار بصمت
رغم التحديات، تبقى كابل مركزًا صناعيًا مهمًا. وتشير بيانات وزارة الصناعة إلى وجود حوالي 5 آلاف مصنع في البلاد، منها 1100 في العاصمة، تشمل قطاعات النسيج، والصناعات الغذائية، والأدوية، والجلود، ومواد البناء. لكن الاتحاد الوطني للصناعيين يقدّر عدد المصانع بـ4500 فقط، ويؤكد أن العديد منها يعمل بأقل من نصف طاقته.
البطالة تلتهم الأمل
الركود الصناعي ترك آثارًا كارثية على العمال. فقد بلغت نسبة البطالة الرسمية 14.1% في 2022، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى أنها تصل إلى 35% في كابل. ويقول محمد ناصر، عامل سابق في مصنع نسيج: “طُردت من عملي في 2023 مع 90% من زملائي. اليوم أُعيل أسرتي بمساعدات لا تكفي شيئًا”.
دعم حكومي محدود وشكاوى متصاعدة
يشتكي الصناعيون من ضعف المبادرات الحكومية، حيث لا توجد قروض ميسرة أو إعفاءات ضريبية كافية. ويؤكد عبد الله رحيمي، رئيس جمعية صغار الصناعيين، أن “الصناعة في خطر ما لم يتم تقديم دعم عاجل، وتسهيلات لاستيراد المواد الخام”.
وفي ظل تجميد 9 مليارات دولار من الأصول، وانقطاع مساعدات سنوية كانت تشكّل 40% من الناتج المحلي، يجد القطاع نفسه محاصرًا من كل جانب.
الحكومة تدافع… ولكن الشكوك قائمة
نائب وزير الصناعة والتجارة، أحمد الله زاهد، صرح بأن الحكومة خصصت 32 ألف هكتار للمناطق الصناعية، وتم تسليم 20 ألف هكتار منها، مضيفًا أن عدد المصانع زاد بنسبة 40% منذ عام 2022. وأوضح أن الركود الحالي “سببه العقوبات ونقص التمويل”، مؤكداً وجود خطة لتأمين الطاقة ومنح قروض وتسهيلات جمركية خلال العامين المقبلين.
من جانبه، تعهد نائب رئيس الوزراء عبد السلام حنفي بإعفاء العائدين من الخارج من الضرائب لمدة خمس سنوات، وتوفير مساكن وأراضٍ مجانية، وهي إجراءات أثارت تحفظات محلية حول إهمال المصانع القائمة لصالح جذب استثمارات جديدة.
أزمة كهرباء مستمرة… وطلب للاستثمار في الطاقة
المتحدث باسم شركة الكهرباء الوطنية “برشنا”، حكمة الله ميوندي، أكد أن الشركة تسعى لزيادة الإمدادات من دول الجوار، لكنها تعاني من نقص الموارد والطاقة المستوردة.
أما محمد كريم عظيمي، رئيس غرفة الصناعات والمعادن، فقال إن “غياب الكهرباء الكافي يجعلنا غير قادرين على منافسة البضائع المستوردة. نحتاج إلى 15-18 ساعة كهرباء يومياً على الأقل”.
أثر مباشر على السوق والصادرات
انعكست الأزمة على السوق الداخلية بتضخم سلبي بلغ -7.7%، كما قفز عجز الميزان التجاري 59% إلى 8.9 مليارات دولار عام 2024. ومع ذلك، ارتفعت صادرات الأغذية بنسبة 35%، وسُجلت نجاحات جزئية، مثل تصدير عصائر إلى كازاخستان، ومشروبات طاقة إلى آسيا الوسطى.
لكن صادرات المنسوجات تراجعت 45%، مما يدل على هشاشة التوازن بين الإنتاج والتجارة.
أرقام تلخّص الأزمة
- 5 آلاف مصنع (رسميًا)، 4500 بحسب الصناعيين.
- 40% من الوظائف الصناعية فُقدت منذ 2021.
- 60% من مصانع كابل خفّضت إنتاجها بنسبة تفوق 40%.
- 25% من المصانع توقفت كليًا بحلول 2024.
- 50% من مصانع الأحذية أغلقت خلال عامين.
- انخفاض استثمارات القطاع الصناعي 45% منذ 2021.
- انقطاع الكهرباء أثر على 80% من الطاقة الإنتاجية.
- خسائر مالية تُقدّر بـ500 مليون دولار في كابل فقط بين 2023 و2024.
صناعة على حافة الانهيار
ويحذر الخبير الاقتصادي عمر سعيدي، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاردان في كابل، من أن الصناعة الأفغانية “تواجه خطر الانهيار الكامل ما لم يُستثمر في الطاقة البديلة، وتُراجع العقوبات، ويُقدَّم دعم فعلي للمصانع الصغيرة”.
في كابل، لم تعد المصانع رمزا للتنمية، بل تحوّلت إلى أطلال لأحلام معلقة. وفي ظل ما بين وعود حكومية، وشكاوى الصناعيين، ومؤشرات اقتصادية مقلقة، يبقى مصير الصناعة الأفغانية معلقًا بين التعافي الممكن… والانهيار المحتمل.