تطور الطباعة الثلاثية الأبعاد وأثرها في صناعة البناء والتقنيات الحديثة

بدأت أبحاث الطباعة الثلاثية الأبعاد (3D Printing) في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، إلا أن أول طابعة تجارية تم إطلاقها في عام 1986، بتصميم المهندس ورجل الأعمال الأميركي تشاك هال، الذي يُعتبر الأب الروحي لهذه التقنية الثورية.
وفي عام 2014، حققت الشركة الصينية “وينسن” إنجازًا بارزًا حينما طبعت 10 منازل من طابق واحد خلال 24 ساعة فقط، باستخدام طابعة عملاقة بقياسات 32 × 6.6 × 10 أمتار. اعتمدت في ذلك على خليط خاص من الإسمنت المعاد تدويره ومخلفات البناء، حيث تم طباعة أجزاء المنازل بشكل منفصل ثم تجميعها في الموقع، مما جعل تكلفة بناء كل منزل أقل من 5 آلاف دولار. هذا الإنجاز فتح آفاقًا واعدة لاستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد في توفير حلول سكنية منخفضة التكلفة، خصوصًا في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية أو المتأثرة بالكوارث.
واصلت “وينسن” تطوير تقنياتها، حيث أطلقت لاحقًا أول فيلا مطبوعة بالكامل، تلاها أول مبنى مكون من 5 طوابق، مما أثبت أن الطباعة الثلاثية الأبعاد يمكن أن تكون بديلًا فعّالًا للبناء التقليدي من حيث السرعة، والكلفة، وتقليل النفايات.
ومؤخرًا، اقترب أكبر مشروع مطبوع ثلاثي الأبعاد في العالم من الإنجاز، وهو مشروع “وولف رانش” السكني في جورج تاون بولاية تكساس الأميركية، الذي يضم 100 منزل.
الطباعة الثلاثية الأبعاد في دول الخليج
شهدت دبي افتتاح أول مكتب تم إنشاؤه باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد في مايو 2016، تلتها العديد من المنشآت المطبوعة خلال السنوات التالية. وفي سبتمبر 2016، أعلنت دبي طموحها أن يتم بناء 25% من مبانيها باستخدام هذه التقنية بحلول عام 2030، رغم أن تحقيق هذا الهدف لا يزال محل تساؤل.
أما في السعودية، وضمن رؤية 2030 لتطوير قطاع الإسكان وبناء 1.5 مليون منزل خلال العقد المقبل، فقد استثمرت شركة النخبة السعودية للمقاولات العامة والاستثمارات العقارية عام 2019 في واحدة من أكبر طابعات العالم من طراز “بود 2” (BOD2) الدانماركية، القادرة على طباعة مبانٍ مكونة من 3 طوابق بمساحات تتجاوز 300 متر مربع لكل طابق في عملية واحدة، بتكلفة تتراوح بين نصف مليون ومليون دولار.
وفي 6 مارس 2024، افتتحت السعودية أول مسجد في العالم مبني باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد، في مشروع الجوهرة بمحافظة جدة، على مساحة 5600 متر مربع، واستغرق إنجازه 6 أشهر باستخدام أربع طابعات متطورة من شركة “جوانلي” الصينية.
ولم تقتصر التقنية على السعودية والإمارات، بل امتدت إلى باقي دول الخليج؛ ففي سبتمبر 2024، وقّعت شركة “أورباكون” القطرية عقدًا مع شركة “كوبود” الدانماركية لاستيراد طابعات ثلاثية الأبعاد متطورة من الجيل الثالث، تُستخدم في بناء مدارس نموذجية في قطر.
الطباعة الثلاثية الأبعاد ودورها في إعادة الإعمار بعد الكوارث
تتجلى أهمية الطباعة الثلاثية الأبعاد في سرعتها وقدرتها على إعادة بناء المناطق المتضررة من الحروب والكوارث الطبيعية بكفاءة وتكلفة منخفضة. ففي أوكرانيا، مثلاً، استخدمت التقنية لبناء منازل بديلة للعائلات التي فقدت مساكنها نتيجة القصف، في زمن قياسي وتكلفة أقل.
تواجه أوكرانيا تحديات كبيرة بسبب الغزو الروسي الذي أدى إلى تدمير آلاف المدارس، منها 277 مدرسة بالكامل. وتسعى الحكومة والمنظمات الإنسانية إلى توظيف الطباعة الثلاثية الأبعاد لمواجهة النقص الحاد في البنية التحتية التعليمية، حيث تؤكد منظمة “فيلد ريدي الإنسانية” أن الوقت بعد الكارثة هو العامل الأهم، والطباعة الثلاثية الأبعاد توفر سرعة وكفاءة عالية لإعادة البناء في المواقع الأكثر حاجة.
مقارنة بين البناء التقليدي والطباعة الثلاثية الأبعاد
- الزمن: يستغرق البناء التقليدي شهورًا أو حتى سنوات، بينما يمكن للطباعة الثلاثية الأبعاد إنهاء الهيكل خلال أيام أو أسابيع.
- التكلفة: تقل بنسبة 20-40% مقارنة بالبناء التقليدي.
- القوى العاملة: تتطلب مشاريع البناء التقليدية عددًا كبيرًا من العمال، في حين تعتمد الطباعة الثلاثية الأبعاد على فريق صغير وآلة واحدة.
- الأثر البيئي: تقل النفايات والهدر في البناء المطبوع بشكل كبير مقارنة بالبناء التقليدي.
الطباعة الرباعية الأبعاد (4D Printing)
تُعد الطباعة الرباعية الأبعاد تطورًا متقدمًا للطباعة الثلاثية الأبعاد، حيث تستخدم مواد ذكية تغير شكلها أو خصائصها تلقائيًا مع مرور الوقت استجابة لمحفزات مثل الحرارة أو الضوء أو الرطوبة. تتيح هذه التقنية إنشاء هياكل ديناميكية تتفاعل مع البيئة المحيطة، مثل النوافذ التي تفتح تلقائيًا لتحسين التهوية عند ارتفاع درجات الحرارة، ما يجعلها واعدة في مجالات الهندسة، والطب، والبناء، والروبوتات.
الطباعة الثلاثية الأبعاد في الفضاء: مشروع أوليمبوس
في نوفمبر 2022، منحت وكالة ناسا عقدًا بقيمة 57.2 مليون دولار لشركة “أيكن” الأميركية لتطوير مشروع “أوليمبوس” الذي يهدف إلى بناء بنية تحتية على سطح القمر باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد، اعتمادًا على مواد متوفرة محليًا. يشمل المشروع إنشاء منصات هبوط، وطرقات، ومساكن، ويسهم في تحقيق أهداف برنامج أرتميس لإقامة وجود بشري دائم على القمر.
الخلاصة
لم تعد الطباعة الثلاثية الأبعاد مجرد تقنية تجريبية، بل تحولت إلى أداة حقيقية تفتح آفاقًا جديدة في التصميم، والإنتاج، والبناء، والإسكان. مع استمرار تطور هذه التكنولوجيا وتوسع استخدامها في مجالات متنوعة مثل البناء، والصناعة، والطب، والفضاء، فإنها تمهد لعصر جديد من الابتكار المستدام، يجعل بناء المنازل، وإعادة الإعمار، والاستيطان خارج كوكب الأرض، أمورًا أسرع، وأكثر كفاءة، وأقل تكلفة.