تكنولوجيا

ألعاب الفيديو: وسيط سردي فريد يجسد التجربة النفسية بعمق يتجاوز السينما والتلفزيون

تتمتع ألعاب الفيديو بقدرة سردية استثنائية تجعلها تختلف جذريًا عن باقي أشكال الإعلام المرئي، مثل الأفلام والمسلسلات أو حتى القصص المسموعة. فبينما تُلقي الوسائط التقليدية بالمشاهد في موقع المتلقي السلبي الذي يتتبع تسلسل الأحداث دون قدرة على التفاعل الحقيقي، تفرض الألعاب على اللاعب أن يعيش القصة ويتفاعل معها، لا كمشاهد، بل كمشارك أساسي في تشكيل أحداثها.

هذا التفاعل العميق يجعل من ألعاب الفيديو منصة مثالية لنقل التجارب النفسية المعقدة، خصوصًا في ما يتعلق بالاضطرابات النفسية والعصبية. فهي تتيح للاعب اختبار هذه الحالات عن قرب، متجاوزةً الحواجز التقليدية التي تفرضها وصمة العار أو الصور النمطية التي تسود في الإعلام المرئي.

ولم يعد دور الألعاب مقتصرًا على تمثيل المعاناة فحسب، بل أصبحت أداة علاجية أيضًا؛ إذ طُورت بعض الألعاب خصيصًا لمراعاة الاضطرابات النفسية والمساهمة في التخفيف من أعراضها، لتتحول إلى جزء من منظومة الدعم النفسي والعلاج السلوكي.

في بعض الحالات، لا تُنبئ اللعبة اللاعب بشكل مباشر بطبيعة الحالة التي يعيشها بطل القصة، بل تجعله يختبرها وكأنه يعاني منها فعليًا، كما لو أنه يعيش واقع مريض لم يُشخص بعد. هذا النوع من التجارب ينقل مشاعر الارتباك والمعاناة والضياع بشكل يصعب تحقيقه في أي وسيط آخر.

صناعة الألعاب: أضخم من الأفلام والرياضة مجتمعة

في ظل تجاوزها للأفلام والرياضة من حيث الإيرادات العالمية، لم يعد غريبًا أن تصبح ألعاب الفيديو في طليعة الصناعات الثقافية المؤثرة. ومع هذا التأثير، ظهرت العديد من الألعاب التي تناولت موضوعات الصحة النفسية بطرق مبتكرة وإنسانية. فيما يلي، نستعرض أبرز النماذج التي نجحت في تقديم تجارب نفسية واقعية ومؤثرة.

1. Silent Hill 2 – مرآة الاكتئاب والصدمة

تُعد “سايلنت هيل 2” واحدة من أكثر ألعاب الرعب شهرة وتأثيرًا. صدرت في نسختها الأصلية عام 2001، ثم عادت بنسخة محسنة في 2024، واستمرت في تناول قضايا نفسية عميقة مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. استخدمت اللعبة هذه الاضطرابات لبناء عالم مرعب يمزج بين المأساة الشخصية والكوابيس النفسية، حيث يواجه البطل وحوشًا نابعة من معاناته الداخلية إثر فقدان زوجته.

2. Max Payne – رحلة في أعماق الحزن والغضب

منذ صدورها في 2001، قدمت لعبة “ماكس بين” تجربة درامية قوية تتناول اكتئاب وفقدان بطلها، الشرطي الذي يسعى للانتقام من قاتلي عائلته. تسرد اللعبة معاناته دون الإفصاح الصريح عن حالته النفسية، لكنها تضع اللاعب في قلب الأزمة، من خلال الاعتماد على السرد البصري والمواقف الانفعالية وتعاطي المهدئات، مما يعكس تعقيدات التجربة العاطفية.

3. Spec Ops: The Line – الحروب تترك ندوبًا غير مرئية

خرجت “سبيك أوبس: ذا لاين” عن قالب ألعاب الحروب التقليدية عند صدورها عام 2012، وطرحت معالجة فريدة لاضطراب ما بعد الصدمة الذي يصيب الجنود العائدين من ساحات القتال. إذ تسرد اللعبة قصة جندي يشارك في مهمة في دبي، لكن الأحداث تنقلب إلى رحلة من الهلاوس والانهيار النفسي، في سرد صادم يعكس الفوضى الذهنية التي ترافق ضحايا الصراعات المسلحة.

4. Hellblade: Senua’s Sacrifice – الذهان كما لم نعرفه من قبل

قدمت لعبة “هيل بليد” منذ إطلاقها عام 2017 تصورًا عميقًا ومتفردًا لتجربة الذهان. تتمحور القصة حول بطلة تعاني من هلاوس بصرية وسمعية، ويعيش اللاعب هذه التجربة معها بشكل مباشر. من خلال المؤثرات الصوتية والتفاعلات البصرية، تعكس اللعبة بدقة الانفصال عن الواقع، ما يجعلها من أقوى الألعاب تمثيلًا للحالة النفسية والذهنية المعقدة.

أهمية التمثيل النفسي في ألعاب الفيديو

يمثل التناول الواعي للأمراض النفسية في الألعاب تطورًا بالغ الأهمية، لا من ناحية فنية فحسب، بل كجزء من دورها التثقيفي والإنساني. إذ يساهم هذا النوع من السرد في كسر الوصم المحيط بهذه الحالات، ويمنح اللاعبين فرصة لفهم أعمق لمعاناة المصابين، ليس عبر المحاضرات أو المقالات، بل من خلال عيش التجربة ذاتها.

تجارب مثل “هيل بليد” تجعل اللاعب يعاني من الهلاوس مع البطلة، فيتداخل الواقع بالوهم، وينشأ إدراك حسي مباشر بما يشعر به المرضى، وهو أمر يصعب تحقيقه عبر وسائل الإعلام الأخرى.

ومع أن تمثيل الاضطرابات النفسية لا يزال غالبًا محصورًا في ألعاب الرعب، فإن المستقبل يحمل إمكانيات أوسع لدمج هذه القضايا في أنواع ألعاب مختلفة، مما يفتح الباب أمام وعي أوسع ودعم نفسي أكبر من خلال الترفيه التفاعلي.

زر الذهاب إلى الأعلى