الأخبار العالمية

من “جبل النار” إلى كتيبة جنين.. مسيرة المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية

في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2024، نفّذت إحدى مجموعات المقاومة الفلسطينية عملية نوعية عبر تفجير عبوة ناسفة مزروعة مسبقاً استهدفت آلية عسكرية تابعة لجيش الاحتلال قرب بوابة 104 غرب مدينة طولكرم، ما أسفر عن إصابة جنديين إسرائيليين. اكتسبت العملية أهميتها لأنها جاءت بعد أكثر من سبعة أشهر من الهجمات العسكرية المتواصلة للاحتلال في طولكرم ومخيّمَيْها طولكرم ونور شمس، وهي منطقة تُعد من أكثر مناطق الضفة الغربية تعقيداً من الناحية الأمنية نظراً لقربها من جدار الفصل العنصري وكثافة التواجد العسكري الإسرائيلي فيها

وفي مدينة جنين وقراها، تواصل المقاومة الفلسطينية استهداف قوات الاحتلال عبر تفجير العبوات الناسفة محلية الصنع أثناء الاقتحامات المتكررة للمدينة ومخيّمها. ففي الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2024، أعلنت سرايا القدس – كتيبة جنين – مسؤوليتها عن تفجير عبوة ناسفة بجيب عسكري إسرائيلي قرب الجدار الفاصل في بلدة السيلة الحارثية.

وأشارت الباحثة تهاني مصطفى من مجموعة الأزمات الدولية إلى أن جنين تحولت في السنوات الأخيرة إلى مركز رئيسي للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية، مع تطور ملحوظ في التكتيكات القتالية، حيث رصدت تقارير ميدانية تزايد استخدام العبوات الناسفة في شمال الضفة كجزء من هذا التحول الميداني.

وفي نابلس، التي تشهد اقتحامات عسكرية شبه يومية لقوات الاحتلال، باتت المواجهات مشهداً اعتيادياً يعكس واقعاً أمنياً متوتراً في شمال الضفة الغربية، حيث تتواصل الاشتباكات منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام.

منذ معركة سيف القدس عام 2021 بدأت في شمال الضفة تشكيلات مقاومة مسلحة صغيرة تحوّلت تدريجياً إلى خلايا أكثر تنظيماً مثل كتيبة نابلس وعرين الأسود، وقد توسّع نشاطها بشكل لافت مع اندلاع معركة طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

يسعى هذا المقال إلى تتبّع مسار المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية منذ العصور الحديثة، انطلاقاً من مثلث جنين – نابلس – طولكرم، الذي ظلّ على مدار التاريخ مركزاً حيوياً للفعل المقاوم في فلسطين.

نابلس.. من مواجهة نابليون إلى ثورة الفلاحين

في عام 1799، قاد نابليون بونابرت حملته على المشرق العربي بعد احتلاله مصر، فاجتاح غزة والرملة ويافا قبل أن يتجه إلى عكا حيث اصطدم بمقاومة شرسة من واليها أحمد باشا الجزار وأهالي فلسطين.
وفي تلك المعارك، برز أهالي جبل نابلس الذين نصبوا كميناً للقوات الفرنسية في أحراش قرية زيتا جمّاعين، ما أسفر عن مقتل ثلاثين جندياً فرنسياً وتدمير عربة مدفع، ومنحت هذه الواقعة نابلس لقبها التاريخي “جبل النار”.

ومع بداية القرن التاسع عشر، اتجه إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى بلاد الشام ضمن مشروع توسعي، ففرض التجنيد الإجباري والضرائب الباهظة على الفلسطينيين، ما أدى إلى اندلاع ثورة الفلاحين عام 1834 التي انطلقت من نابلس وجنين وطولكرم.
قاد آل جرار في جنين وآل البرقاوي في طولكرم وآل عبد الهادي في نابلس المواجهات ضد الجيش المصري، وسقط مئات الشهداء في معارك عنيفة أبرزها معركة زيتا ودير الغصون.

الثورة الكبرى (1936–1939).. ولادة المقاومة الوطنية

تحت الانتداب البريطاني، تصاعدت الهجرة الصهيونية المدعومة من لندن، فاندلعت سلسلة من الثورات كان أعنفها الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
قاد الفلاحون وأبناء المدن هذه الثورة بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام في أحراش يعبد قرب جنين عام 1935، لتندلع بعدها موجة من الإضرابات والاشتباكات المسلحة التي استمرت ثلاث سنوات متواصلة.

برز خلال الثورة القائد عبد الرحيم الحج محمد من قرية ذنابة شرق طولكرم كأحد أبرز زعماء العمل المسلح حتى استشهاده عام 1939. ورغم قمع الثورة عسكرياً، فإنها أرست أسس المقاومة الوطنية المنظمة، وأصبحت نموذجاً استلهمته كل حركات التحرر الفلسطينية اللاحقة.

من النكبة إلى الانتفاضة الأولى.. جيل المخيمات

أدت نكبة 1948 إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، وأقيمت المخيمات في جنين وطولكرم ونابلس لتحتضن اللاجئين الذين أصبحوا لاحقاً نواة المقاومة.
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تأسست حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لتبدأ مرحلة الكفاح المسلح المنظم.
وفي عام 1968، استشهدت شادية أبو غزالة من نابلس أثناء إعداد عبوة ناسفة، لتُسجَّل كأول شهيدة فلسطينية بعد النكسة.

شهدت السبعينيات والثمانينيات تصاعد المقاومة الشعبية، خاصة بعد يوم الأرض 1976 وظهور رموز وطنية مثل بسام الشكعة في نابلس، وصولاً إلى الانتفاضة الأولى عام 1987 التي انطلقت إثر دهس عمال فلسطينيين على حاجز إيرز.
تحوّلت الانتفاضة إلى حركة شعبية واسعة اتسمت بالعصيان المدني والمواجهات الجماهيرية، وكان لشمال الضفة دور محوري فيها عبر مجموعات “الفهد الأسود” و”النسر الأحمر” التي نفذت عمليات جريئة ضد الاحتلال.

انتفاضة الأقصى.. صعود المقاومة المنظمة

في سبتمبر/أيلول 2000، فجّر اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى غضباً فلسطينياً عارماً أشعل الانتفاضة الثانية، التي اتسمت بانتشار العمليات المسلحة في كل أنحاء الضفة.
تحولت جنين إلى رمز للمقاومة بعد معركتها الشهيرة عام 2002، حين تصدت الفصائل مجتمعة لقوات الاحتلال لمدة 15 يوماً في مواجهة غير متكافئة، أسفرت عن مقتل 23 جندياً إسرائيلياً واستشهاد 52 فلسطينياً.

وفي طولكرم، لمع اسم رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى، الذي جعل من المدينة مركزاً لعمليات الرد السريع ضد الاحتلال.
أما نابلس، فقد فقدت قادتها واحداً تلو الآخر في حملة اغتيالات مركزة، كان من أبرزهم جمال منصور وجمال سليم ونايف أبو شرخ.

ورغم توقيع “هدنة شرم الشيخ” عام 2005، واصل المقاومون من شمال الضفة تنفيذ عمليات فدائية، مؤكدين أن جذوة المقاومة لا يمكن إخمادها.

ما بعد الانقسام.. المقاومة تعيد تشكيل نفسها

بعد عام 2007، انقسم المشهد الفلسطيني بين غزة المقاومة والضفة الخاضعة للتنسيق الأمني، غير أن جذور المقاومة بقيت حاضرة في شمال الضفة، خاصة مع اندلاع هبّة القدس عام 2015 التي دشّنت مرحلة جديدة من العمليات الفردية.
شهدت تلك المرحلة بروز ظاهرة العمليات الفردية التي نفذها شبان دون انتماء تنظيمي مباشر، مستخدمين أسلحة بسيطة مثل السكاكين أو بنادق الكارلو محلية الصنع، وكان من أبرزها عملية قباطية في القدس عام 2016.

كما لمع اسم أحمد نصر جرار من جنين وأشرف نعالوة من طولكرم، اللذين تحوّلا إلى رمزين للمطاردين الجدد، بعد اشتباكات طويلة مع قوات الاحتلال انتهت باستشهادهما.

جيل المخيمات الجديد.. من كتيبة جنين إلى عرين الأسود

في يناير/كانون الثاني 2021، وخلال اقتحام قوات الاحتلال لجنين، خاض الشهيد جميل العموري اشتباكاً مسلحاً كان الشرارة الأولى لتأسيس كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس.
ومع معركة سيف القدس في العام ذاته، أعلن العموري عن مشروعه المقاوم لإعادة إشعال العمل المسلح في الضفة الغربية، قبل أن يُستشهد في يونيو/حزيران 2021، تاركاً إرثاً نضالياً ألهم جيلاً جديداً من المقاتلين.

وبعد عملية نفق الحرية في سبتمبر/أيلول 2021، التي حرر فيها ستة أسرى أنفسهم من سجن جلبوع، أعلنت كتيبة جنين عن نفسها كإطار مقاوم يجمع أبناء مختلف الفصائل.
سرعان ما امتد تأثيرها إلى نابلس حيث تشكّل عرين الأسود عام 2022، ليتحول شمال الضفة من جديد إلى مركز الفعل المقاوم، تماماً كما كان قبل قرنين من الزمان.

زر الذهاب إلى الأعلى