مقارنة تحليلية بين عباس محمود العقاد وعبد الرحمن الكواكبي

في فضاء الفكر العربي الحديث، يبرز اسمان بقوة في مشهد النهضة الفكرية والتحولات السياسية والاجتماعية التي عرفها العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين: عباس محمود العقاد (1889 – 1964) وعبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902). يمثل كلٌّ منهما تيارًا فكريًا مميزًا: العقاد بوصفه مفكرًا عقلانيًا موسوعيًا تشكّلت ملامحه في قلب العصر الليبرالي المصري، والكواكبي باعتباره رائدًا مبكرًا للفكر الإصلاحي السياسي المرتكز على نقد الاستبداد والدعوة إلى التنوير الإسلامي.
أولًا: الخلفية والسياق التاريخي
ولد الكواكبي في حلب أواسط القرن التاسع عشر، في بيئة عثمانية تتسم بالتدهور السياسي والجمود الديني، فكان مشروعه الفكري موجهًا ضد الاستبداد العثماني، محاولًا ربط انحطاط الأمة بفساد الحكم وانهيار الفكر الديني.
أما العقاد، فقد وُلد بعد أكثر من ثلاثة عقود في أسوان، وتشكّلت رؤاه في ظل مصر الحديثة التي شهدت احتكاكًا عميقًا بالثقافة الأوروبية، وتأثر بالليبرالية الغربية، لا سيما تيار الفردانية والتنوير.
ثانيًا: المرجعيات الفكرية
اعتمد الكواكبي على مرجعية إسلامية تجديدية، متأثرًا بالمدرسة العقلانية الإسلامية القديمة (المعتزلة مثلًا)، لكنه أعاد تأويلها في ضوء حاجات الأمة المعاصرة، ولا سيما في كتابيه الشهيرين:
- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، الذي صاغ فيه نظرية شبه علمية عن الاستبداد وآثاره في الدين والعلم والأخلاق.
- أم القرى، وهو حوار تخيلي حول سبل إصلاح الأمة الإسلامية عبر مؤتمر يضم أعلامها من أقطار متعددة.
أما العقاد، فكانت مرجعيته عقلانية نقدية، تمزج بين الفلسفة الغربية والفكر الإسلامي، لكنه منحاز للفرد كقيمة عليا. كتب في الأدب والفكر والسياسة والدين، ومن أبرز أعماله:
- عبقريات العقاد، التي أعاد فيها قراءة سير أعلام الإسلام (محمد، عمر، علي، خالد…) بمنهج نفسي وتاريخي تحليلي.
- الله وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه، حيث دافع فيهما عن التوحيد والعقل في فهم الدين.
ثالثًا: الموقف من الدين
يتفق العقاد والكواكبي في تقدير الدين كقوة إصلاحية، لكن تختلف منهجيتهما:
- الكواكبي يرى أن الاستبداد يشوّه الدين، ويحول العلماء إلى أدوات في يد الطغاة، ويقترح تحرير الدين من قبضة السلطة.
- أما العقاد، فقد آمن بأن الدين لا يتعارض مع العقل، وأن الإسلام عقلاني بطبعه، لكنه كان أكثر ميلًا للدفاع عن الإسلام أمام الهجمات الغربية أو الإلحادية، دون الاشتباك المباشر مع الفقهاء أو المؤسسات.
رابعًا: اللغة والأسلوب
- يتميز الكواكبي بأسلوب خطابي تحريضي ساخر، يجمع بين الوضوح والعمق، وهو ما جعله مؤثرًا في الحركات الثورية والنهضوية.
- أما العقاد، فأسلوبه تحليلي فلسفي جاف أحيانًا، لكنه عميق وموسوعي، يتطلب قارئًا نخبويًا؛ إذ يستخدم مصطلحات من الفلسفة والمنطق والتاريخ.
خامسًا: الأثر الفكري والسياسي
- تأثرت حركات النهضة العربية والإسلامية في بدايات القرن العشرين بكواكبي، خاصة رواد الإصلاح الديني والسياسي مثل محمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني وعبد الحميد بن باديس.
- أما العقاد، فقد كان أحد أعلام الليبرالية الفكرية في مصر الحديثة، وكان له دور سياسي أيضًا، إذ انتُخب عضوًا في البرلمان، واشتهر بمعاركه الفكرية ضد خصومه من الشيوعيين والاشتراكيين والإخوان المسلمين على حدّ سواء.
سادسًا: مشروع الإصلاح
- الكواكبي طرح مشروعًا قائمًا على تحرير الإنسان من الاستبداد السياسي والديني معًا، معتقدًا أن إصلاح الدين لا يتحقق إلا بإصلاح الحكم.
- أما العقاد، فكان مشروعه قائمًا على تحرير العقل من الجهل والتقليد، مؤمنًا بأن الارتقاء بالوعي الفردي كفيل بإحداث النهضة، دون ضرورة للاشتباك مع السلطة مباشرة.
سابعًا: النهاية والتأثير الممتد
- توفي الكواكبي في ظروف غامضة بمطلع القرن العشرين، ويُعتقد على نطاق واسع أنه اغتيل بسبب أفكاره، مما منحه هالة من الشهادة الفكرية.
- العقاد عاش طويلًا وشهد تحولات مصر الكبرى (الملكية، ثورة يوليو)، وترك إرثًا مكتوبًا يزيد على مئة كتاب، مما يجعله من أكثر المفكرين إنتاجًا في العصر الحديث.
خاتمة:
تشكل المقارنة بين العقاد والكواكبي جسرًا لفهم تحولات الفكر العربي الحديث بين الإصلاح السياسي والإصلاح الثقافي، وبين الثورة على الاستبداد والدعوة إلى العقل. فالكواكبي يشبه الشعلة التي تُلهب الحركات، بينما العقاد يشبه المصباح الذي يُنير العقول. كلاهما حمل مشروعًا نهضويًا، لكن أدواتهما ومساراتهما اختلفت، وتكاملت في تشكيل وعي الأمة الحديثة.