مدن وبلدان

نحو أسطورة مُؤسِّسة للدولة الموريتانية: قراءة في لحظات التشكل السياسي قبل الاستعمار

الكلمات المفتاحية: الأسطورة المؤسسة، الدولة الموريتانية، مؤتمر تندوجه، الشيخ سيديا، المقاومة، الذاكرة التاريخية، الاستعمار الفرنسي.

مقدمة

يُعد مفهوم الأسطورة المُؤسِّسة من المفاهيم المركزية في علوم الإنسان والدولة؛ إذ يمثل اللحظة الرمزية التي تلتقي عندها الجماعة السياسية لتعريف ذاتها وبناء سرديتها المشتركة. ومن دون هذه الأسطورة يظل الكيان السياسي قائمًا على البنية القانونية فحسب، دون إطار رمزي موحِّد.

في الحالة الموريتانية، لم تُعلن الدولة – منذ تأسيسها – سردية مؤسسة واضحة. ومع ذلك، تتضمن الذاكرة التاريخية لحظات فارقة تحمل مقومات هذه الأسطورة، وإن ظلّ استثمارها الرسمي محدودًا. ويُروى في هذا السياق حوار مهم بين المؤرخ سيدي محمد الشنافي والرئيس المؤسس المختار ولد داداه، حين تحفظ الشنافي على موثوقية نسبة ضريح بوبكر بن عامر في تكانت، فقال له ولد داداه: “أنت تدرس التاريخ… وأنا أصنع التاريخ”. تكشف هذه العبارة عن وعي مبكر بأهمية الرمز التاريخي في بناء الهوية الوطنية.

الإطار المفاهيمي: الأسطورة المؤسسة والذاكرة الجماعية

تُعرّف الأسطورة المؤسسة بأنها سردية رمزية تُنسب إليها بداية الجماعة السياسية، وتُستخدم لإضفاء الشرعية على الدولة وتعزيز الانتماء. وقد تناول هذا المفهوم عدد من الباحثين، مثل بول ريكور (Ricoeur, 2000) في دراساته عن الذاكرة والنسيان، وبندكت أندرسن (Anderson, 1983) في نظريته حول “الجماعات المتخيّلة”، حيث يبيّن أن الدولة تحتاج دائمًا إلى نقطة بدء رمزية تربط الحاضر بالماضي.

وفي السياق الموريتاني، حيث تتعدد الانتماءات القبلية والأهلية، يزداد دور السردية المؤسسة أهمية لتعزيز تصور مشترك عن “الوطن” بوصفه كيانًا سابقًا على الدولة الاستعمارية.

حدود مفهوم المقاومة في موريتانيا

رغم كثرة الإشارات إلى “المقاومة الموريتانية”، إلا أن استعمال المفرد يوحي – خطأً – بوجود قرار سياسي موحد تجاه الاستعمار. غير أن المعطيات التاريخية تشير إلى غياب مفهوم الوطن الموحد في تلك الفترة، وإلى أن الإمارات والقبائل كانت وحدات سياسية مستقلة ذات مصالح مختلفة.

كانت المواجهة مع فرنسا في معظمها دينية ودفاعية، وليست نتاج تصور وطني شامل. وتظل معركة النيملان (1906) نموذجًا لالتقاء الإرادات المحلية حين فرض الحدث ذاته وحدة فعلية عابرة للقبائل، شارك فيها محاربون من مناطق متعددة، بمن فيهم القادمون من أسماره استجابةً لنداء الشيخ ماء العينين. ومع أنها لحظة ذات دلالة، فإنها لا ترقى – وفق المفهوم السياسي – إلى أن تكون “أسطورة مؤسسة” لأنها لم تصدر عن إرادة وطنية جامعة بل عن حافز ديني ومناطقي.

مؤتمر تندوجه: نحو لحظة جامعة

يمثل مؤتمر تندوجه الذي دعا له الشيخ سيديا ولد المختار الهيبة إحدى أبرز اللحظات التي توفرت فيها مقومات الإجماع السياسي. فقد وجّه الشيخ الدعوة إلى جميع ذوي الشأن من الإمارات والقبائل والفاعلين التقليديين، في سابقة تحمل دلالة واضحة على إدراك الحاجة إلى قرار جماعي يتجاوز إكراهات البنى المحلية.

يمكن النظر إلى مؤتمر تندوجه بوصفه:

  1. أول مبادرة وطنية الطابع تستهدف جمع الأطراف كافة على طاولة واحدة.
  2. لحظة عكست إدراكًا متقدمًا بوجود “بلد” تتشارك وحداته مصيرًا واحدًا.
  3. خطوة مبكرة نحو تأسيس وعي سياسي يتجاوز العصبية الضيقة.

ومن منظور الدراسات السياسية، فإن مجرد الدعوة الشاملة التي أطلقها الشيخ سيديا تمثل تحولًا في الوعي السياسي المحلي، وهو ما يجعل المؤتمر مؤهلًا ليكون جزءًا من سردية تأسيسية للدولة الحديثة.

من الواقعية السياسية إلى لحظة بناء الدولة: الشيخ سيديا باب

بعد مؤتمر تندوجه، جاء دور الشيخ سيديا باب – حفيد الشيخ سيديا الكبير – ليجسد منطقًا آخر من لحظات التأسيس، هو منطق إدارة الممكن في ظل تغيرات جذرية فرضها التوسع الفرنسي. فقد وقع الشيخ اتفاقًا مع كبولاني، بهدف حماية مصالح السكان وتنظيم العلاقة مع قوة استعمارية صاعدة.

ورغم الجدل الذي أحاط بموقفه، إلا أن التحليل الأكاديمي يتعامل معه بوصفه تعبيرًا عن وعي دولتي مبكر، يسعى إلى تجنيب المجتمع حالة الفوضى، وتحديد قواعد العلاقة مع سلطة الأمر الواقع. وهنا تتكامل لحظة تندوجه (رمزية الإجماع) مع لحظة الشيخ سيديا باب (البراغماتية السياسية) لتشكّلا معًا مسارًا منظمًا نحو تصور جماعي للدولة.

خاتمة: نحو إعادة قراءة اللحظات المؤسسة في تاريخ موريتانيا

لا تقوم الدول فقط على الأسس القانونية والمؤسساتية، بل تترسخ جذورها من خلال اللحظات الرمزية التي تُجمع عليها الذاكرة الجماعية. وفي الحالة الموريتانية، يمثل مؤتمر تندوجه وما تبعه من مواقف سياسية لأسرة الشيخ سيديا نواة سردية مناسبة للأسطورة المؤسسة، لأنها:

لحظات تجاوزت الانقسامات التقليدية.

حملت تصورًا مبكرًا لوحدة البلاد.

جسدت وعيًا سياسيًا بالمسؤولية المشتركة.

إن استعادة هذه اللحظات ليس إعادة كتابة للتاريخ، بل إعادة تأطير له في سردية وطنية جامعة تُسهم في بناء الهوية وتعزيز تماسك الكيان السياسي الموريتاني.

الكاتب :

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى