موريتانيا عند مفترق الأزمات: البحث عن طريق الخلاص/

حمادي سيدي محمد آباتي
بين فوضى الحدود، واستقطاب الجوار، وتكلس الداخل
“ليست الأزمة في حدود الدولة، بل في حدود الوعي بها؛ حين يغيب المشروع الوطني، تتحول الجغرافيا إلى عبء، والهوية إلى غنيمة.”
تشهد موريتانيا اليوم تراكمًا خطيرًا في الأزمات، تتقاطع فيه الهشاشة الأمنية، والاحتقان الاجتماعي، والفساد الإداري، والضبابية السياسية.
ومع كلّ أزمةٍ جديدة، يتأكد أن المشكل أعمق من التفاصيل اليومية: إنه أزمة دولةٍ تبحث عن ذاتها بين التاريخ والقبيلة، وبين الحياد والموقف، وبين الشعارات والواقع.
أمنٌ هشّ وحدودٌ جائعة
الأمن الموريتاني لا يتهدده السلاح بقدر ما يهدده الفقر المتفشي في المناطق الحدودية.
ففي القرى المحاذية لمالي، حيث الجوع والبطالة وغياب التعليم، تنبت بيئات قابلة للاختراق من الجماعات المتطرفة التي تجد في اليأس مدخلًا إلى النفوس.
إنّ تأمين الحدود لا يكون بالسلاح وحده، بل بالتنمية والعدالة الاجتماعية. فالشباب الجائع والمهمّش لا يُحمى بالأسوار، بل بالفرص.
الثروة الحيوانية… مورد هشّ بقدر هشاشة السياسة
تعتمد القطعان الموريتانية في الحوضين ولعصابة وكيدي ماغه وكوركول والترارزة على مراعي مالي والسنغال، ما يجعل مصير الثروة الحيوانية – أحد أعمدة الاقتصاد الوطني – مرتهنًا بالاستقرار الإقليمي.
إنّ غياب سياسة تنموية جادة لإدارة هذا المورد يجعل البلاد رهينة لتقلّبات الخارج، بينما يمكن – بتخطيط علمي – تحويل الثروة الحيوانية إلى رافعةٍ حقيقيةٍ للتنمية لا عبئًا موسمياً يتكرر كل عام.
الحياد لا يعني الميوعة
أما على المستوى الإقليمي، فإن الاستقطاب بين الجزائر والمغرب يضع موريتانيا في موقفٍ بالغ الحساسية.
فالجزائر، التي وقفت تاريخيًا إلى جانب موريتانيا، تمدّ اليوم يدها بمشاريع استراتيجية مثل طريق تندوف–ازويرات الذي قد يفتح آفاقًا اقتصادية واعدة.
بينما تمضي المغرب في مسارٍ يثير الريبة، من خلال تحالفاتٍ أمنيةٍ مع الكيان الصهيوني ومحاولات التأثير في فضائنا الإقليمي.
وعليه، فإن الحياد الموريتاني ينبغي أن يكون حيادًا ناضجًا، لا حيادًا رماديًا؛ يوازن بين المصالح الوطنية ويحمي السيادة دون التورط في نزاعات الآخرين.
الداخل المنهك… فساد يلتهم الثقة
في الداخل، يقرّ النظام بانتشار الفساد، لكن المعالجة ما تزال شكلية.
فارتفاع الأسعار، وتبييض الأموال، وتجارة الممنوعات، ليست سوى أعراضٍ لاقتصادٍ مريضٍ بالاحتكار والزبونية.
وما دام الولاء القبلي هو طريق التعيين، ستظل الكفاءة منفية، وستبقى الوظيفة العمومية منصةً للمكافأة لا خدمةً للمواطن.
أما التعليم، فقد تراجع دوره إلى حدّ أصبح فيه حاجزًا بدل أن يكون جسرًا نحو العدالة الاجتماعية.
العبور إلى الدولة المدنية
الطريق إلى الخلاص يبدأ من بناء دولة مدنية حديثة تنهي الزواج القسري بين القبيلة والدولة.
ذلك لا يعني إنكار البنية الاجتماعية، بل تحييدها عن القرار السياسي والإداري.
إنّ موريتانيا لا تحتاج إلى تجميل خطابها، بل إلى تجديد عقدها الاجتماعي، وإعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم عبر إصلاحٍ جذري في التعليم والعدالة وتوزيع الثروة.
فالأمن الحقيقي لا يُبنى على توازن القوى، بل على توازن العدالة.
وحين يدرك النظام أن أخطر ما يهدد الدولة ليس الخارج، بل فقدان الإيمان بالداخل، يمكن عندها أن تبدأ موريتانيا رحلة الخروج من الأزمات نحو بناء وطنٍ يتسع لجميع أبنائه.
“الدولة التي لا تُؤمّن مواطنيها من الفقر، لا تنجو مهما أغلقت حدودها.”








