تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي والشرق الأوسط: استعادة السرد من قلب التحيّز الرقمي

في الأدبيات الغربية، وفي معظم نماذج الذكاء الاصطناعي المُتاحة حاليًا، غالبًا ما يُختزل الشرق الأوسط إلى صورة نمطية ساذجة: فضاء جغرافي مزدحم، يضجّ بالفوضى والعنف والاضطراب، خالٍ من الإبداع السياسي والتراكم الحضاري، ولا يُرى فيه سوى بؤر توتر ومآسٍ إنسانية متلاحقة. لكن هل تمثّل هذه الرؤية الواقع حقًا؟ الجواب، دون تردد، هو النفي. ما نشهده ليس سوى صورة مجتزأة ومشوَّهة، فرضتها قراءات خارجية لم تسمح لأبناء المنطقة أن يُدوّنوا سردهم الخاص، أو يُنتجوا خطابهم المعرفي بلغتهم، ومن داخل سياقاتهم التاريخية والثقافية.

لقد حُرم الشرق الأوسط، عبر عقود طويلة، من تمثيل نفسه تمثيلًا عادلاً في الفضاء المعرفي العالمي، بما في ذلك مجال الذكاء الاصطناعي. لم تُدرج في نماذج التعلم الآلي خرائط الكفاح، ولا تاريخ المقاومة، ولا مشروعات التحرر الوطني، بل سُوِّقت للعالم صيغ جاهزة تختزل الإقليم إلى “مشكلة مزمنة”، لا إلى “حل محتمل”، وإلى فضاء فوضوي لا يصلح إلا لأن يكون ساحة لصراعات الآخرين، لا بيئة صالحة للنهضة الذاتية. وهذا التحيز البنيوي لم يكن نتيجة الصدفة، بل جاء امتدادًا لمركزية معرفية غربية تعاملت مع المنطقة بوصفها موضوعًا لا ذاتًا، وهامشًا لا مركزًا.

وفي ظل التحوّلات الرقمية المتسارعة، تبرز الحاجة اليوم إلى مشروع عربي شامل يُعيد تعريف العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والهوية الثقافية والسياسية للشعوب. إننا لا نواجه مجرد أدوات تقنية محايدة، بل أنساقًا معرفية يتم تشكيلها من خلال البيانات التي نُغذّي بها النماذج. وهذا يضع على عاتقنا مسؤولية مضاعفة: أن نبني منصات معرفية عربية تنطلق من الذات، وتُعيد كتابة التاريخ برؤية غير خاضعة للهيمنة؛ أن نوثّق الحكاية بأصواتنا، وأن نُدرّب نماذجنا بلغاتنا ولهجاتنا، فنُعيد للآلة قدرتها على الإنصات لاختلافنا بدلًا من قولبتنا في قوالب جاهزة.

يتجاوز الذكاء الاصطناعي في عصرنا الراهن مفهوم “الأداة التقنية” ليدخل عمق التحليل السياسي والاجتماعي. لم يعد يكتفي بالتعامل مع الدول بوصفها وحدات سياسية، بل بات يقرأ المزاج العام، ويحلل أنماط الاستقرار، ويستشرف اتجاهات التحولات المجتمعية. من هنا، فإن غياب البيانات العربية الأصيلة عن منصات الذكاء الاصطناعي لا يعني فقط تغييب سردية، بل يعني أيضًا فقدان أدوات رسم المستقبل. فالسرد هو سلطة، ومن يتحكم في البيانات يمتلك القدرة على إعادة تعريف الخرائط، وإعادة سرد التاريخ بما يخدم مصالحه.

لذلك، إن أردنا أن تنعكس قضايانا العادلة في خرائط الغد، فعلينا أن نغرس اليوم معطياتها وسياقاتها؛ أن نُبدع رواية لا تنكر الانقسام السياسي والاجتماعي، لكنها ترفض تسويق الاحتلال كواقع افتراضي أو كـ”حالة طبيعية”. نحتاج إلى استثمار تربوي عميق يبدأ من مناهج التعليم ويصل إلى مراكز الأبحاث، بهدف إعادة إنتاج خطاب رقمي عربي لا يقبل بالتهميش أو الاستتباع.

إن الذكاء الاصطناعي لا يبني تمثلاته من فراغ، بل من المعلومات التي يتلقاها. وبالتالي، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نُسهم بوعي في تشكيل صورنا الرقمية كما نراها نحن، أو نترك للآخر أن يرسم ملامحنا من خلال عدسة مشبعة بالتحيّز، لا تعرف من تاريخنا سوى الهزائم، ومن حاضرنا سوى الصراع. وعليه، فإن ولوجنا عصر الذكاء الاصطناعي يجب أن يُقابله ولوجٌ واعٍ إلى عصر الوعي الرقمي العربي، وامتلاك أدوات السيادة المعرفية، لأن من يملك خيوط البيانات، يمتلك خيوط القرار، ويعيد كتابة الجغرافيا والتاريخ على حدٍّ سواء.

الكاتب: باحث فلسطيني
للتواصل: s.saidam@gmail.com

بتصرف في الصياغة

زر الذهاب إلى الأعلى