السودان… وطنٌ يتأرجح بين مجد التاريخ ومرارة الحاضر

تقع العاصمة الخرطوم عند النقطة التي يعانق فيها النيل الأزرق شقيقه الأبيض، تتشكّل ملامح دولة لم تكن يومًا عادية في تاريخها ولا في جغرافيتها. السودان، ذلك البلد الممتد على تخوم العالم العربي وأعماق أفريقيا، يعيش اليوم واحدة من أكثر لحظاته قسوة، وهو يحاول أن يتذكّر نفسه: من كان؟ وأين يقف الآن؟ وإلى أين يمكن أن يمضي؟
إرث حضاري يتجاوز الزمن
ليس السودان وليد الدولة الحديثة فحسب، بل هو وريث حضارات ضاربة في القدم. من ممالك كرمة ونبتة ومروي، إلى انتشار الإسلام والعروبة عبر طرق التجارة والدعوة السلمية، ظل السودان فضاءً مفتوحًا لتلاقح الثقافات. هذا التراكم التاريخي منح البلاد هوية فريدة، لكنه في الوقت ذاته وضعها أمام تحديات إدارة التنوع بعد الاستقلال في يناير 1956.
موقع استراتيجي… ونقطة جذب للصراعات
جغرافيًا، يحتل السودان موقعًا بالغ الحساسية في شمال شرق أفريقيا، تحيط به سبع دول، ويتحكم في شريان الحياة الأفريقي – العربي: نهر النيل. هذا الموقع جعله بوابة عبور بين الشمال والجنوب، لكنه جعله أيضًا عرضة لتجاذبات إقليمية لم تتوقف، خاصة مع تعقيدات ملف المياه والأمن الحدودي.
مجتمع متنوع ودين جامع
يقطن السودان أكثر من خمسين مليون نسمة، ينتمون إلى فسيفساء إثنية وثقافية واسعة. ويشكّل الإسلام الإطار الديني الغالب، مانحًا المجتمع قدرًا من التماسك القيمي، مع وجود أقليات دينية عاشت تاريخيًا في نسيج اجتماعي متسامح. غير أن سوء إدارة التنوع، سياسيًا وتنمويًا، ساهم في إذكاء التوترات بدل تحويلها إلى مصدر قوة.
حضور عربي وإسلامي ودولي متذبذب
منذ استقلاله، انخرط السودان مبكرًا في محيطه العربي، بانضمامه إلى الجامعة العربية، وإلى منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك إلى الأمم المتحدة.
في عقود سابقة، كان للخرطوم وزنٌ معتبر في النقاشات العربية، خاصة في القضايا القومية. إلا أن تكرار الانقلابات، والعزلة الدولية التي عاشتها البلاد في فترات معينة، قلّصا من تأثيرها الإقليمي، وجعلا سياستها الخارجية رهينة للواقع الداخلي المضطرب.
اقتصاد غني… لكنه مُنهك
يمتلك السودان مقومات اقتصادية نادرة: أراضٍ زراعية خصبة، مياه وفيرة، ثروات معدنية ضخمة، وموقع تجاري واعد. غير أن هذه الثروة ظلت حبيسة الصراعات وسوء الإدارة.
بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، فقدت الخرطوم جزءًا كبيرًا من عائداتها النفطية، ومع اندلاع الحرب الأخيرة، دخل الاقتصاد مرحلة انهيار حاد، اتسم بارتفاع التضخم، وتراجع قيمة العملة، وشلل قطاعات الإنتاج.
حرب بلا أفق… وأزمة إنسانية مفتوحة
منذ أبريل 2023، تحوّلت الخلافات السياسية والعسكرية إلى صراع دموي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
الحرب لم تكتفِ بتدمير المدن، بل ضربت نسيج المجتمع ذاته، ودفعت ملايين السودانيين إلى النزوح واللجوء، في مشهد أعاد البلاد عقودًا إلى الوراء، وسط صمت دولي متردد ومبادرات سلام لم تنضج بعد.
هل لا يزال الأمل ممكنًا؟
رغم سوداوية المشهد، يرى مراقبون أن الخروج من النفق لا يزال ممكنًا، شريطة توفر إرادة حقيقية لوقف القتال، والانخراط في عملية سياسية شاملة تعالج جذور الأزمة، لا مظاهرها فقط. فالسودان لا يحتاج إلى تسوية عسكرية، بل إلى عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف الدولة والسلطة والعدالة.
سياحة منسية في بلد استثنائي
بعيدًا عن صور الحرب، يختزن السودان كنوزًا سياحية قلّ نظيرها في المنطقة.
من أهرامات مروي التي تتحدى الزمن، إلى جبل البركل المدرج عالميًا، ومن سحر النيل ورحلاته الهادئة، إلى شواطئ البحر الأحمر في بورتسودان، مرورًا بطبيعة كسلا وجبال التاكا، يملك السودان كل مقومات السياحة الثقافية والأسرية.
غير أن هذه الثروة بقيت رهينة غياب الاستقرار والبنية التحتية.
خاتمة
السودان اليوم ليس مجرد عنوان لأزمة عابرة، بل مرآة لفشل سياسي طويل، يقابله صبر اجتماعي استثنائي.
هو بلدٌ يعرف كيف ينهض، لكنه لم يُمنح بعد فرصة النهوض الحقيقي. ومتى ما توقفت المدافع، فإن هذا الوطن، بثقله التاريخي وموقعه الاستراتيجي، قادر على استعادة مكانته، لا كدولة منكوبة، بل كجسر حضاري بين العرب وأفريقيا.









