صراع السلطة وتحديات الأمن في موريتانيا: قراءة تحليلية في بنية واقع مأزوم

رغم أن موريتانيا لم تعرف، عبر تاريخها الحديث، أزمات سياسية حادة كتلك التي عصفت بدول أخرى في الإقليم، فإنها تعيش شكلًا مختلفًا من التوتر السياسي يمكن وصفه بـ الصراع الهادئ على السلطة. هذا الصراع لا يظهر في شكل مواجهات علنية، ولكنه يتجلى في ممارسات وسياسات كرّست ما يمكن تسميته بـ تشييء السلطة وتشييء المواطن؛ حيث تحولت السلطة إلى غنيمة يمكن الاستحواذ عليها، وتحول المواطن إلى مادة سياسية قابلة للتسويق والمقايضة.
أولًا: تشييء السلطة وتزييف الوعي العام
ساهمت البنى التقليدية والتحالفات القَبَلية والجهوية في خلق بيئة تسمح بتحويل العملية السياسية إلى سوق مفتوح لشراء الولاءات. وفي ظل ضعف الوعي السياسي وتراجع الثقافة المدنية، يجد جزء واسع من المواطنين نفسه أسيرًا للوعود الزائفة أكثر من التزامه بالمعايير الموضوعية.
وهكذا تُهمَّش الفئات الوطنية ذات النوايا الصادقة، فيما تتصدر المشهد فئات تتقن لعبة الاستغلال السياسي، فتُستخدم الديمقراطية كأداة للصراع بدل أن تكون آليةً للتداول السلمي على السلطة. وفي هذا المناخ، يصبح من السهل تنويم المجتمع سياسيًا، وتسويق أوهام تُغَيِّبُ عنه حقيقة مصالحه الكبرى.
ثانيًا: الهجرة كتحدٍّ مركب يطال الأمن والاقتصاد والمجتمع
لم تعد الهجرة مجرّد ظاهرة اجتماعية، بل تحولت إلى عامل ضغط استراتيجي يستنزف الموارد البشرية ويؤثر في سوق العمل عبر منافسة غير متوازنة مع العمالة المحلية. كما تسهم في إدخال عادات قد تتعارض مع قيم المجتمع، مما يخلق حالة من التوتر الثقافي والاجتماعي.
وإلى جانب آثارها الداخلية، قد تشكل الهجرة بوابةً لتدخلات خارجية ناعمة، حيث يمكن لبعض دول الجوار استخدام هذه الورقة لفرض إرادات سياسية أو اقتصادية، الأمر الذي يجعل الهجرة أحد أخطر التحديات الأمنية غير التقليدية.
ثالثًا: اتساع مفهوم الأمن ومسؤولية الدولة والمجتمع
لم يعد الأمن اليوم مقتصرًا على ردع التهديدات العسكرية أو حفظ النظام العام، بل أصبح يشمل شعور المواطن بالحرية والأمان المعنوي والاقتصادي.
وتواجه موريتانيا، كغيرها من دول المنطقة، تحديات أمنية متنامية تتوزع بين:
الهجرة غير المنظمة
المخدرات
الجريمة المنظمة
الاعتداءات والسرقات والنشل
الاتجار بالسلاح
الجريمة السيبرانية
هذه التحديات تتجاوز قدرات الأجهزة الأمنية وحدها، ما يجعل الأمن مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع. ولا يمكن تحقيقه دون وعي شعبي، وثقافة مواطنة، وسياسات واضحة تعالج جذور الاختلالات لا مظاهرها فحسب.
خاتمة
إن تشييء السلطة، وتزييف الوعي، وتفاقم التحديات الأمنية والاقتصادية، تشكل مجتمعةً منظومة مترابطة من المخاطر التي تهدد استقرار الدولة وتماسكها.
ولا سبيل لمواجهتها إلا من خلال مشروع وطني جامع يُعيد الاعتبار للمواطن كفاعل أساسي في بناء الدولة، ويكرس ثقافة المسؤولية المشتركة، ويؤسس لسلطة تُستمد شرعيتها من خدمة المصلحة العامة لا من شبكات النفوذ.
حمادي سيدي محمد آباتي








