تكنولوجيا

الانتشار الخفي لبرمجيات التجسس: شبكة عالمية تهدد الأمن القومي وتغذّي انتهاكات حقوق الإنسان

في عمق السوق السيبرانية العالمية تتنامى صناعة شديدة الخطورة تتمثل في برمجيات التجسس، التي أثبتت أنها سلاح قادر على تقويض الأمن القومي وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع. وقد شكّلت قضية شركة “إن إس أو غروب” (NSO Group) الإسرائيلية واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك، بعد أن ألزمتها محكمة أميركية بدفع 168 مليون دولار في مايو/أيار الماضي إثر استهدافها البنية التحتية لتطبيق واتساب باستخدام برنامجها سيئ الصيت “بيغاسوس”، وهي واقعة تؤكد مدى تصاعد خطورة انتشار هذا النوع من البرمجيات وتأثيره على استقرار الدول وحريات الأفراد.

ووفق تقرير المجلس الأطلسي لعام 2024، تعمل شركات التجسس غالبا عبر شبكات معقدة تضم شركات قابضة وموردين ومستثمرين وشركاء، بهدف إخفاء أنشطتها وتمويه تحركاتها، مما يعقّد مهمة الحكومات في مراقبة هذه الصناعة أو منع إساءة استخدامها. وعلى الرغم من القيود والعقوبات الأميركية المفروضة لاحتواء هذا التوسع، يشير محللون إلى أن القطاع لا يزال يعمل خارج نطاق الرقابة الفعلية، خصوصا مع دخول مستثمرين جدد وتكيّف الشركات مع المتغيرات التنظيمية.

وبحسب ما كشفه موقع “أرس تيكنيكا”، فإن المستثمرين الأميركيين يضخون رؤوس أموال ضخمة في شركات تطوّر برمجيات التجسس، مما يسهم في نمو الصناعة عالميا ويزيد من مخاطر انتهاكات الخصوصية والأمن الشخصي. كما أظهر تحليل المجلس الأطلسي أن عدد المستثمرين الأميركيين في هذا المجال ارتفع خلال 2024 ليصل إلى 31 مستثمرا، وهو رقم يعادل مجموع المستثمرين الأوروبيين، بينما بلغ عدد المستثمرين داخل إسرائيل 26 مستثمرا.

الولايات المتحدة واستخدام الذراع الإسرائيلية لصناعة التجسس

يحضر الدور الأميركي في هذه الصناعة من خلال مؤسسات مالية عملاقة في وول ستريت، مثل:

  • صندوق التحوط DE Shaw & Co
  • صندوق Millennium Management
  • شركة التداول Jane Street
  • شركة الاستثمار Ameriprise Financial

وقد بيّن المجلس الأطلسي أن هذه المؤسسات استثمرت في الشركة الإسرائيلية “كوغنيت” (Cognyte)، التي ترتبط تقنياتها بتقارير عن انتهاكات لحقوق الإنسان في دول مثل أذربيجان وإندونيسيا.

وفي تطور لافت، استحوذت شركة AE Industrial Partners الأميركية المتخصصة في الاستثمارات الدفاعية على شركة التجسس الإسرائيلية Paragon Solutions أواخر 2024، والتي استعادت مؤخرا عقدا مع هيئة الهجرة والجمارك الأميركية. وأثارت الصفقة انتقادات حادة من خبراء الحقوق المدنية الذين اعتبروا أن توسيع استخدام أدوات التجسس الحكومية يهدد الحقوق الدستورية للمواطنين.

إلى جانب ذلك، تضم هذه الصناعة شبكة واسعة من الوسطاء والموزعين الذين يسهّلون حركة الأدوات بين البائعين والمشترين. ومن أبرز الشركات الصاعدة:

  • Bindecy الإسرائيلية
  • SIO الإيطالية
    إضافة إلى موردين في المملكة المتحدة والإمارات.

إسرائيل.. المصدّر الأول لبرمجيات التجسس عالمياً

رغم الفضائح التي ارتبطت ببرمجيات التجسس، لا سيما “بيغاسوس”، تواصل صناعة التجسس توسّعها. فمن 2011 إلى 2023 تعاقدت 74 حكومة حول العالم مع شركات تجارية للحصول على أدوات تجسس أو تقنيات الأدلة الجنائية الرقمية، وفق قاعدة بيانات أعدها معهد كارنيغي.

وتبيّن البيانات أن:

  • 44 دولة استبدادية أو شبه استبدادية اشترت هذه التقنيات.
  • 33 دولة ديمقراطية اقتنت الأدوات ذاتها.

أما إسرائيل فتتصدر قائمة المصدّرين، إذ حصلت 56 حكومة على أدوات من شركات إسرائيلية مثل:
NSO – Cellebrite – Cytrox – Candiru

كما ظهرت طبقة ثانية من الموردين تضم شركات ناشئة ومطورين مستقلين، مما سهّل انتشار أدوات تجسس مفتوحة المصدر بأسعار أقل.

ويستغل العديد من الموردين ثغرات تشريعية في الاتحاد الأوروبي عبر إنشاء مكاتب في دول ذات رقابة ضعيفة مثل قبرص واليونان وبلغاريا، إضافة إلى استخدام هياكل شركات قابضة لإخفاء هوية العملاء وتجنب الملاحقة.

ويشير متخصصون إلى أن إسرائيل –بوصفها مُصدّرا رئيسيا– لم تُولِ الاعتبارات الحقوقية الاهتمام الكافي عند منح تراخيص التصدير، ما يجعل الضغط الأميركي والدولي ضرورة للحد من استخدام هذه الأدوات في انتهاكات حقوق الإنسان.

برمجيات التجسس كورقة سياسية في الشرق الأوسط

لم تعد برمجيات التجسس تُستخدم لأغراض تقنية فقط، بل تحولت إلى أداة دبلوماسية فعالة، خصوصا في الشرق الأوسط. فقد استثمرت إسرائيل هذا القطاع لتعزيز علاقاتها مع دول مثل:
السعودية – الإمارات – المغرب
حيث شُكّلت هذه الأدوات قناة للتقارب السياسي خلال عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

وفي الولايات المتحدة، ورغم إدراج تكنولوجيا التجسس ضمن اتفاقية Wassenaar المنظمة لتصدير الأدوات السيبرانية الهجومية، فإن سجلّ واشنطن في التطبيق جاء متناقضا. فبعد أحداث سبتمبر 2001 سمحت الحكومة الأميركية لشركات خاصة مثل CyberPoint بتزويد الإمارات بأدوات قرصنة طورها موظفون سابقون في وكالة الأمن القومي. وفيما بعد، سعت الإمارات إلى تطوير قدراتها المحلية عبر إنشاء شركة DarkMatter لتجاوز القيود الأميركية.

وفي حال فرضت الولايات المتحدة قيودا مشددة على هذه الشركات، فقد تتوتر علاقاتها مع إسرائيل وبعض شركائها العرب، لكن من المستبعد أن يؤدي ذلك إلى قطيعة، خصوصا أن واشنطن اعتادت التعامل مع مثل هذه التوترات في ملفات حقوق الإنسان.

زر الذهاب إلى الأعلى