تحقيقات

الصندوق… ادخار أم فخ؟ قراءة هادئة في جدل محتدم

لم يكن إنشاء صندوق سكن المدرس خطوة عبثية أو إجراءً ارتجاليًا، بل جاء في سياق ضاغط فرضته مطالب ملحّة من المدرسين الذين ظلوا لسنوات ينادون بتحسين رواتبهم المتدنية. أمام هذا الضغط، اقترحت الحكومة حلاً وسطًا: صيغة ادخار طويلة المدى، تُمكّن المدرس ـ عند بلوغ الدور ـ من الاستفادة من مبلغ معتبر يساعده على امتلاك سكن لائق.

الصيغة باختصار تقوم على اقتطاع ٩٧٠٠ أوقية قديمة شهريًا من راتب المدرس، وعلى مدى خمس عشرة سنة. وعند وصول الدور، يُمنح المدرس سبعة ملايين أوقية قديمة، منها ما ادّخره ومنها أكثر من خمسة ملايين كدعم من الدولة. من البديهي أن المستفيدين الأوائل هم الأكبر سنًّا والأقرب إلى التقاعد، فكل سنة يتقاعد عدد من المدرسين، ومع كل دفعة يستفيد آخرون بحسب الأقدمية وعدد الأطفال، ما يعني أن الاستفادة ستظل تتوسع بمرور الزمن.

فلماذا إذن يُعارَض الصندوق؟

المفارقة أن بعض النقابات ـ ومعها عدد من المدرسين ـ تقف موقفًا سلبيًا من الصندوق، بل تصفه بأنه “غير شرعي”. لكن هذه الحجة لا تستقيم فقهيًا ولا قانونيًا، لأن الاقتطاع ليس قرضًا ولا مرابحة، بل هو في جوهره ادخار سيُعاد إليك، والدولة ملزمة بإرجاعه حتى في حال تراجع المدرس أو وفاته قبل الاستفادة. كما أفتى فقهاء معروفون بانعدام أي شبهة ربا في الأمر، مما يسقط أهم ذريعة رُوّجت ضد المشروع.

الحقيقة أن جزءًا من الرفض يأتي من ضيق أفق استراتيجي لدى بعض المستفيدين؛ فهناك فئة من حديثي التخرج ترى التعليم مجرد محطة عبور نحو وظيفة أخرى، لذلك لا يعنيها مشروع طويل الأمد كهذا، ولا يعنيها استقرار مهني أو سكن دائم. بل إن بعضهم يخشى أن يستفيد منه غيره فيظن ـ عن جهل ـ أن وجود الصندوق سيُثبّت المدرس في مهنته ويمنعه من المغادرة.

ما وراء الجدل

قد يكون السؤال الحقيقي هو:
هل أُريد للصندوق أن يُخيف المدرس أكثر مما يطمئنه؟ هل أُريد أن يُزرع الشك في نفوسهم كي يقاطعوه؟
هنا تظهر الإشكالات الفِقعية: أي خلق بؤر شكّ وتمثلات خاطئة، تجعل البعض يرى في الصندوق “فخًا”، بينما هو في جوهره نافذة ادخار واستفادة مستقبلية.

الأدهى من ذلك أن بعض الرافضين لا يقدمون بديلًا، بل يكتفون بالاعتراض، فتضيع فرصة تاريخية طالما انتظرها المدرس، وربما ينسحب المشروع تحت وقع الصخب المؤقت، فيخسر الجميع.

الواقعية هي المدخل الصحيح

صحيح أن الرواتب ضعيفة، وأن الغالبية مدينة للبنوك، لكن الصحيح أيضًا أن هذا لا يتعارض مع مواصلة الضغط من أجل رفع الأجور والعلاوات. بل قد يكون الصندوق جزءًا من معادلة أكبر: ضغط + حلول مرحلية + رؤية مستقبلية.

الاستراتيجية الحقيقية ليست في الرفض الصاخب، بل في استثمار كل مكسب مهما كان صغيرًا، مع الحفاظ على حق التفاوض والتصعيد المهني. فالأمم التي تبني مستقبلها لا تنتظر “الحل الكامل” كي تبدأ، بل تبدأ بما هو ممكن ثم تتقدم.

خاتمة

الصندوق ليس عصا سحرية، لكنه فرصة يجب ألا تُهدر. وإن كان لا يلبي كل المطالب، فهو على الأقل نواة لامتلاك سكن طالما ظل حلُمًا بعيدًا عند آلاف المدرسين. فمن الخطأ أن نترك ضيق الأفق أو سوء الفهم أو الخوف من الاستفادة المتأخرة يُفوّت علينا ما قد يكون خطوة أولى في مسار طويل من تحسين وضع المدرس.

إن قوة النقابات والتنسيقيات ليست أن تقول: لا؛ بل أن تقول:
نعم… ولكن نريد أكثر.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى