تحقيقات

الفساد… حين يُصبح أسلوب حكم لا انحرافًا عابرًا

“ليست أخطر أشكال الفساد هي سرقة المال العام، بل سرقة المعنى العام للدولة.”

منذ أن وُجدت الدولة الحديثة، وُجد معها الفساد بأشكاله المختلفة، لكن الشعوب تختلف في مدى قدرتها على مواجهته أو التعايش معه. فثمة فسادٌ يمرّ كالأوبئة في تاريخ الدول ثم يُكافَح ويُطوى أثره، وثمة فسادٌ يتحوّل إلى ثقافةٍ سياسيةٍ مستدامة، يُعاد إنتاجها في كل دورةٍ من الحكم. وموريتانيا –للأسف– تندرج ضمن هذا النمط الثاني، إذ ألفت الفساد حتى صار جزءًا من بنية الدولة لا مجرد انحراف عنها.

أولاً: مراتب الفساد حسب شناعتها وخطورتها

  1. الفساد القِيَمي والأخلاقي:
    وهو أخطر أنواعه لأنه يهدم المناعة الأخلاقية للمجتمع. فعندما يتساوى اللص والنزيه في المكانة، يُكافأ الأول بالترقية ويُعاقَب الثاني بالإقصاء، تتفكك منظومة القيم التي تُبنى عليها الدولة.
  2. الفساد الإداري والمؤسسي:
    وهو الذي يجعل الوظيفة العامة وسيلةً للمحاباة والولاء، لا للكفاءة والخدمة. هذا النوع هو البوابة التي يدخل منها كل فسادٍ آخر، إذ تُزرع في مؤسسات الدولة عناصرُ غير مؤهلة تُدار بالأوامر لا بالأنظمة.
  3. الفساد المالي والاقتصادي:
    من سرقة المال العام، وتضخيم الصفقات، إلى تهريب الثروات وتبييض الأموال. لكنه في جوهره نتيجة لا سبب، لأنه يُزهر في بيئةٍ أفسدها غياب الضمير والمؤسسية.
  4. الفساد السياسي:
    وهو الأب الشرعي لكل ما سبق، حين تُختزل الدولة في نظام، والنظام في شخص، والشخص في شبكةٍ من الولاءات القَبَلية والمصلحية. هذا الفساد لا يسرق المال فقط، بل يسرق الدولة من مواطنيها.

ثانياً: موريتانيا… من التأسيس إلى تطبيع الفساد

منذ اللحظة الأولى لتأسيس الدولة، كان الفساد موجودًا بجرعات متفاوتة. لكنه استشرى بعد الانقلاب على الحكم المدني، حين أصبحت السلطة تُكتسب بالقوة لا بالصندوق، وأضحى الولاء العسكري هو طريق النفوذ السياسي والاقتصادي.

وخلال العقود اللاحقة، تكرّس منطق “الغنيمة”، وأصبح الحديث عن الكفاءة نوعًا من المثالية الباردة في واقعٍ تحكمه التوازنات القبلية والمنافع المتبادلة.

ثالثاً: عشريات الفساد… بين “الصديق” و”الرفيق”

في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بلغ الفساد ذروته. فاتهامات نهب المال العام، والاستحواذ على مقدرات الدولة، وثراء المقربين منه، لم تكن مجرد إشاعات، بل أصبحت ملفات قضائية طاولت أكثر من ثلاثمائة شخصية من أركان نظامه.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
كيف نُهبت ثروات البلد دون علم من كانوا في أعلى هرم السلطة حينها؟

فرئيس الجمهورية الحالي كان –آنذاك– مديرًا عامًا للأمن، ثم قائدًا عامًا للجيوش، ثم وزيرًا للدفاع، أي في صميم الدائرة الأمنية والعسكرية التي شكلت عمود النظام.

أما الوزير الأول الحالي، فكان خلال العشرية نفسها مديرًا عامًا للضرائب، ثم وزيرًا للمالية، ثم وزيرًا للاقتصاد والمالية في وقت واحد، أي في قلب الدائرة المالية والاقتصادية التي أُديرت عبرها موارد الدولة.

فهل يُعقل أن يكون كل ذلك الفساد قد جرى في الظل؟
أم أن الصمت كان شكلًا من أشكال التواطؤ الضمني الذي صنع استقرار النظام القديم وامتداده الجديد؟

رابعاً: حين يتحوّل الفساد إلى سياسة توزيع

ليس الفساد سرقة المال فقط، بل أيضًا توزيع المناصب على غير أهلها. فحين تُعيَّن وجوه لا تملك تجربة ولا مؤهلات في مواقع قيادية حساسة، فذلك فسادٌ مؤسسي لا يقل خطرًا عن النهب المالي.

وفي مقاطعة الوزير الأول الحالية، يتجلّى نموذج صارخ من هذا النوع من الفساد الناعم، إذ هُمِّش معظم سكانها باستثناء ثلاث مجموعات فقط.
إحدى هذه المجموعات لم يشملها خير الرجل مباشرة، لكن ردّة فعل متنفذيها وموظفيها جعلتهم هم أيضًا يعيدون إنتاج الإقصاء ذاته، فاستأثروا بالتوظيف لأقربائهم وغفلوا عن جيرانهم وحلفائهم الذين كانوا بالأمس ركيزة دعمهم السياسي والاجتماعي.

وهكذا يتحوّل الفساد إلى سلسلة متصلة من المحاباة المتبادلة، تبدأ من القمة ولا تنتهي عند القاعدة.

خاتمة: الحاجة إلى ثورة أخلاقية قبل الإدارية

لن يجفّ نبع الفساد في موريتانيا بإقالاتٍ شكلية أو محاكماتٍ انتقائية، بل بإرادةٍ سياسية حقيقية تُعيد تعريف الدولة باعتبارها خدمةً عامة لا ملكًا خاصًا.
فالخطر اليوم ليس فقط في استمرار الفساد، بل في أن نعتاده حتى نراه أمرًا طبيعيًا.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه أمة هو أن تفقد إحساسها بفسادها.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى