الأخبار الوطنية

موريتانيا : صفقة مختبر الشرطة بين نفي الوزير وعودة الأسئلة حول الشفافية في التسيير العمومي

لم يغب ملف صفقة مختبر الشرطة عن واجهة الجدل في موريتانيا رغم مرور قرابة أربع سنوات على توقيعها، إذ عاد اليوم إلى قاعة البرلمان من بوابة الاستجواب السياسي، بعدما وجّه النائب إسلك ولد ابهاه أسئلة محرجة لوزير الخارجية محمد سالم ولد مرزوك، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية واللامركزية عند إبرام الصفقة المثيرة.

الوزير، وبلهجة واثقة، نفى أي علاقة له بالملف، معلنًا أنه “يتحدى من يثبت تورطه فيه أو في غيره من الملفات”، ومؤكدًا أنه سبق أن استقال من مناصب حساسة ورفض أخرى، في إشارة إلى نزاهته واستقلال قراره.
لكنّ النفي، رغم قوته، لم ينهِ الأسئلة، بل بدا كأنه فتح الباب مجددًا أمام النقاش العام حول واحدة من أكثر الصفقات إثارة للجدل في السنوات الأخيرة.

ملف يعود من الأرشيف

القضية تعود إلى عام 2021، حين تم توقيع صفقة إنشاء “مختبر الشرطة العلمية” بين وزارة الداخلية الموريتانية وشركة Genomed LTD التركية، بتكلفة بلغت 6.584.300 يورو، أي ما يعادل أكثر من 260 مليون أوقية جديدة.
غير أن تحقيقًا نشرته وكالة الأخبار المستقلة في ديسمبر الماضي كشف أن التكلفة الحقيقية للمشروع لم تتجاوز 4 ملايين يورو، منها 2.3 مليون للبناء، والبقية للتدريب والمتابعة والصيانة. أما الفرق البالغ 2.5 مليون يورو، فقد أُدرج – بحسب التحقيق – كعمولات لوسطاء موريتانيين تورطوا في تمرير الصفقة لصالح الشركة التركية.

اتهامات معقدة وتشابك مصالح

التحقيق الصحفي الذي أعاد إشعال الجدل، أورد أسماء أربعة وسطاء، من بينهم الوزير والسفير السابق سيدي ولد ديدي، الذي قيل إنه لعب الدور المركزي في إقناع المدير العام للأمن الوطني الفريق مسقارو ولد سيدي بدعم المشروع وتوقيعه.
كما شمل التحقيق أسماء أخرى، بينها الطالب الموريتاني عبد الحميد ديا، والدبلوماسي سيدي أحمد خيار، والصحفي أحمد الشيخ، الذين قُدمت بشأنهم تفاصيل تحويلات مالية قيل إنها تمت عبر بنك زراعات التركي وشركة غزلان التجارية العاملة في السوق السوداء للعملات.

هذه التفاصيل الدقيقة، رغم أنها لم تُؤكد رسميًا من القضاء أو أي جهة رقابية، أعطت للقضية بعدًا يتجاوز الشبهة الإدارية إلى فضاء شبه جنائي ذي طابع دولي، خصوصًا وأن بعض التحويلات تمت خارج البلاد.

برلمان يرفع سقف المساءلة

في جلسة الخميس، بدا النائب إسلك ولد ابهاه مصممًا على نقل الملف إلى مستوى سياسي علني، متسائلًا إن كان الوزير لا يخشى احتمال توقيفه في إحدى الدول الأوروبية “حتى ولو من باب الاستفسار”، في ظل ما وصفه بـ”فصل السلطات الحقيقي في تلك البلدان”.
وأضاف النائب أن بعض المستفيدين من الصفقة “لا يحملون أي صفة رسمية ولا يمتلكون مؤهلات سوى قربهم من الوزير”، مشيرًا إلى ما اعتبره “ازدواجية في التعامل مع قضايا الفساد”، حيث “يُحاكم صغار الموظفين بتهمة اختلاس أجهزة تكييف، بينما تُرحل ملفات الصفقات الكبرى دون مساءلة”.

هذه المداخلة لاقت تفاعلًا واسعًا داخل الجلسة، وأعادت إلى الأذهان مطلبًا متكرّرًا من الرأي العام الموريتاني بضرورة تفعيل المساءلة السياسية حول التسيير العمومي، خصوصًا في الصفقات الكبرى التي تتم في فترات انتقالية أو وزارية حساسة.

ردّ الوزير: التحدي العلني

في المقابل، جاء ردّ الوزير ولد مرزوك متماسكًا ومشحونًا برسائل سياسية، حيث قال إنه “سبق أن أوضح موقفه في هذا الملف”، مضيفًا أنه يتحدى أي جهة تثبت تورطه.
وأشار إلى أنه طوال مسيرته الإدارية والسياسية “لم يتهرب من المسؤولية، ولم يسعَ إلى المناصب بقدر ما خدم في مواقع مختلفة بضمير مهني”.
كما حاول التقليل من وقع الاتهامات الإعلامية، معتبرًا أن بعض من كتبوا حول الملف “أظهروا قدراً من الإنصاف في تناولهم”، وهي إشارة ضمنية إلى أن بعض ما نُشر لم يكن موجهًا ضده شخصيًا.

بين الشفافية والسمعة الخارجية

القضية لا تقتصر على بعدها المحلي، إذ إنها تمس صورة الدولة الموريتانية في الخارج، خصوصًا مع وجود شبهات بتحويل أموال عبر النظام المصرفي التركي.
ويرى مراقبون أن هذا النوع من الملفات قد يضع الدبلوماسية الموريتانية في موقف حرج، خاصة إن تمّ تداول أسماء مسؤولين حكوميين في قضايا مالية خارجية، حتى ولو لم تصدر بحقهم إدانات قضائية.

كما يعتبر محللون أن الطريقة التي يُدار بها النقاش حول هذه الصفقات تمثل اختبارًا حقيقيًا لجدية إصلاح منظومة الشفافية والمساءلة التي تؤكد الحكومة الحالية التزامها بها.

خاتمة: ما بين السياسة والأخلاق الإدارية

مهما كانت مآلات هذا الجدل، فإن عودة ملف “مختبر الشرطة” إلى الواجهة تكشف عن حاجة ملحّة لتجديد الثقة في آليات الرقابة والمؤسسات التشريعية، وإعادة تعريف حدود المسؤولية السياسية في البلاد.
فبينما ينفي الوزير أي صلة له بالملف، ويؤكد استعداده لمواجهة أي تحقيق، تبقى الأسئلة مفتوحة حول كيفية إدارة المال العام، ومن يملك القرار الحقيقي في تمرير الصفقات الكبرى.

وفي النهاية، يظل الرهان الأكبر ليس فقط في إثبات البراءة أو الإدانة، بل في بناء ثقافة سياسية جديدة تجعل من الاستقالة، والمساءلة، والشفافية قيمًا حية لا شعارات متداولة.

زر الذهاب إلى الأعلى