غياب معيار الكفاءة… حين تتحوّل الدولة إلى غنيمة قبليّة

المحاصصة القبلية تجرّ الدولة إلى منطق التسويات لا الكفاءة
بقلم: حمادي سيدي محمد آباتي
“حين تُختزل الدولة في أعراف القبيلة، يفقد المنصبُ قيمته، ويغدو التعيين نوعًا من الجبر الاجتماعي لا الاختيار الإداري.”
في دولةٍ يُفترض أنها قطعت أشواطًا في بناء المؤسسات، ما زالت المحاصصة القبلية تتحكّم في مفاصل الإدارة، وتفرض منطقها على حساب معيار الكفاءة والاستحقاق. فما كشفته التعيينات الأخيرة لم يكن مجرد مصادفات متفرقة، بل هو تأكيد صريح على أن النظام — رغم خطاب الإصلاح والتغيير — لم يستطع أن يحجب وجه الحقيقة: القبيلة ما زالت هي معيار الولاء، لا الأداء.
لقد شكّل تقرير محكمة الحسابات، الذي أطاح بعدد من المسؤولين المتهمين بالفساد وسوء التسيير، فرصة نادرة لإعادة الاعتبار لمعيار الكفاءة، غير أن ما تلا التقرير أعاد إنتاج ذات المنظومة. فكل من فقد منصبًا بسبب التقرير تم تعويضه — أو بالأحرى تعويض قبيلته — بشخصٍ آخر من نفس الانتماء. وكأن الدولة تُدار بعقلية “الترضية الجماعية”، لا بمنطق دولة القانون والمؤسسات.
وتكشف التعيينات الأخيرة عن نمط أكثر خطورة: فبدل أن تكون وسيلة لترميم الثقة، تحوّلت إلى آلية لإرضاء التوازنات القبلية. وقد وجد الوزير الأول المختار ولد اجاي نفسه — تحت إكراه هذا المنطق — مضطرًا لتعيين مُحاسب سفارة ومدير “اتير” ومدير إداري ومالي من جماعة واحدة، جميعهم ليسوا موظفين عموميين ولا يمتلكون خبرة مهنية أو إدارية تُذكر. إنهم أبناء المحاصصة، لا أبناء التجربة.
وهكذا، بدلاً من أن يُستثمر الظرف الراهن في ترسيخ ثقافة الجدارة، استُخدم لإعادة توزيع المناصب كما تُوزَّع الأنصبة في سوق عرفيّ مغلق.
وتبرز هنا بصمات الوزير الأول المختار ولد اجاي بوضوح، إذ واصل النهج الذي كرّسه في مراحل مختلفة من مسيرته التسييرية: مكافأة الانتماء بدل الأداء، وإرضاء المجموعات بدل ترميم المؤسسات. فكل قبيلة فقدت منصبًا بسبب التقاعد أو تقرير محكمة الحسابات، عُوّضت بشخصٍ من أبنائها — باستثناء مجموعتين بارزتين بمقاطعة لحجار ظلّ غيابهما لافتًا:
حيث فقدت إحدى المجموعتين مهندسًا كفئًا لم يُعوّض حتى الآن، في نفس السياق أطاح التقرير بأحد أبناء المجموعة الثانية دون أن تجد له بديلًا في قوائم التعويض.
إن أخطر ما في هذا النهج أنه يقتل الثقة في الدولة، ويحوّل الوظيفة العمومية إلى ميدان لتصفية الحسابات القبلية. فحين يغيب العدل وتُغيب الكفاءة، يصبح الانتماء هو الطريق الأقصر إلى المنصب، وتُختزل الدولة في صورة “تسوية عرفية” بين جماعات تبحث عن نصيبها لا عن مصلحة الوطن.
لقد آن الأوان لأن يُطرح السؤال بجرأة:
هل نحن أمام دولةٍ تسعى إلى بناء مؤسسات حديثة، أم أمام نظامٍ يعيد إنتاج القبيلة بأدوات بيروقراطية جديدة؟
إن الإصلاح لا يبدأ بإصدار التقارير، بل بترجمة نتائجها إلى قرارات شجاعة تقطع مع الولاء الضيق، وتعيد للدولة احترامها وللمواطن ثقته بأن الكفاءة — لا القبيلة — هي بوابة الخدمة العامة.







