حين تتحول الكفاءة إلى استثناء والزبونية إلى قاعدة

قراءة سوسيولوجية في ظاهرة “التكافا” وصعود الولاء على حساب الجدارة
«ليست المشكلة أن يغيب الأكفاء، بل أن تغيب المعايير التي تُنصفهم»
مشهد متكرر في زمن “الترشيحات الافتراضية”
كلما شغر منصب عمومي، امتلأت فضاءات التواصل الاجتماعي بعبارات التزكية وصور المرشحين المحتملين، حتى ليخيل للمتابع أن التعيين لم يعد قرارًا إداريًا، بل استفتاءً شعبيًا على صفحات “فيسبوك”.
هذه الظاهرة، التي تنتشر في سوحنا كالنار في الهشيم، تعكس — في جوهرها — خللًا في بنية الوعي الجمعي، أكثر مما تعكس اهتمامًا بالشأن العام.
لقد غدت الزبونية — في نسختها الرقمية — نظامًا بديلًا للجدارة، حيث تُرفع الشعارات من قبيل “لن تجدوا أفضل من فلان”، في حين يُقصى الأكفاء بصمت لأنهم لا يملكون “جمهورًا من المصفقين”.
الكفاءة في مجتمع الولاءات
حين تبقى الدولة حبيسة البنية التقليدية، يغدو المنصب العمومي رمزًا للانتماء لا أداةً للكفاءة.
وتتخذ الزبونية — في هذا السياق — شكل “تكافؤ اجتماعي” مغلف بلغة المصلحة الوطنية، فتتساوى الكفاءة بالقرابة، والخبرة بالانتماء.
بهذا المعنى، لا تُدار المؤسسات وفق منطق الكفاءة، بل وفق ما يمكن تسميته بـ “اقتصاد الولاء”، حيث تُوزّع المناصب كما تُوزّع الغنائم الرمزية داخل البنية القبلية والسياسية.
لكن في هذا المشهد المشوش، تظل هناك استثناءات تذكّر بأن الكفاءة ليست وهماً، بل قيمة نادرة تقاوم التهميش بالصمت والعمل.
ومن بين هذه الاستثناءات يبرز اسم الشيخ ولد البكاي، كأنموذج للمهني الذي لم يطلب التعيين ولم يسعَ للتزكية، بل فرض حضوره بتاريخ طويل من العطاء الإعلامي النزيه.
الشيخ ولد البكاي… سيرة مهنية بلا ضجيج
عاش الشيخ ولد البكاي تجربة إعلامية تمتد على أكثر من ثلاثة عقود، جمع فيها بين الخبرة المحلية والانفتاح الدولي.
شغل منصب مدير الوكالة الموريتانية للأنباء، وعمل مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، كما تولى إدارة الصحافة المكتوبة، وأسهم في تطوير الأداء الإعلامي بمؤسسات وطنية ودولية.
لكن ما يميز تجربته ليس فقط المناصب التي تولاها، بل المنهج المهني المتوازن الذي تبنّاه: نقدٌ موضوعي بلا تهجم، واعتدال بلا تملق.
ففي زمنٍ كان الانقسام بين الولاء والمعارضة حادًا، ظل الشيخ ولد البكاي محافظًا على الخط المهني الثالث:
الصحافة كخدمة عامة لا كسلاح سياسي.
إنه من أولئك الذين اختاروا البقاء في المسافة الأخلاقية بين السلطة والجمهور، فكان صوته عقلانياً في زمن المزايدات.
نهاية المسار… وبداية النكران
بعد مسيرة مهنية حافلة تجاوزت الثلاثة عقود، أحيل الشيخ ولد البكاي إلى التقاعد بصمتٍ يشبه شخصيته: هادئًا، متزنًا، دون احتفاء ولا لفتة تليق بما قدمه.
لم تُقم له المؤسسات الإعلامية ولا الرسمية أي شكل من التكريم الرمزي الذي يُعبّر عن الامتنان أو يحفظ الذاكرة المهنية لأجيالٍ خدمت الوطن بإخلاص.
وهنا تكمن المفارقة المؤلمة:
أن تُكافأ الكفاءة بالنسيان، بينما تُكافأ الضوضاء بالمناصب.
تقاعد الشيخ ولد البكاي، لكن تجربته ما زالت حاضرة كمرآة تعكس خلل نظام التقدير في مؤسساتنا، حيث يُنسى المخلصون، ويُحتفى بالطارئين.
ومع ذلك، ظل الرجل كما عرفه الجميع: مترفّعًا عن الصغائر، مؤمنًا بأن العمل هو المكافأة الحقيقية.
الزبونية كنسق ثقافي لا كتصرف إداري
من منظور سوسيولوجي، لا يمكن اختزال الزبونية في تصرفات أفراد؛ إنها نظام ثقافي متجذر يُعيد إنتاج نفسه باستمرار عبر شبكات القرابة والمصلحة.
فحين تضعف الثقة بالمؤسسات، يبحث الناس عن بدائل “آمنة” داخل دوائرهم الاجتماعية.
بهذا المعنى، الزبونية ليست انحرافًا إداريًا بل منطقًا اجتماعيًا موروثًا يعيد ترتيب الهرمية على أساس الولاء لا الكفاءة.
لكن أخطر ما في الأمر أن هذا المنطق يقتل المعنى المدني للدولة: تتحول المناصب إلى غنائم رمزية، ويغيب الشعور بأن المرفق العمومي ملك للجميع.
وحينها، تُصبح الكفاءة “استثناءً مؤلمًا” لا قاعدة وطنية.
نحو استعادة المعنى المفقود
إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بتغيير الأشخاص، بل بإعادة تعريف المرفق العام كأداة للمصلحة العامة، لا كمجال للمكافآت السياسية والاجتماعية.
يجب أن نعيد الاعتبار لمفهوم الكفاءة، وأن نرى في أصحاب الخبرة ثروة وطنية، لا خصومًا محتملين.
وفي هذا الأفق، يمثّل الشيخ ولد البكاي نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه الإعلامي العمومي:
حاضرٌ بالكلمة، غائبٌ عن الصخب، وفيٌّ للمهنة أكثر من الولاء لأي جهة.
إنه يذكّرنا — دون خطابة ولا ادعاء — أن الاعتدال موقف، وأن المهنية ضمير لا يُعيَّن بمرسوم.
حمادي سيدي محمد آباتي








