الولايات المتحدة تنتزع السيطرة على “تيك توك” وتحوّله إلى ملكية أميركية وسط مخاوف من النفوذ الصيني

نجحت الولايات المتحدة في تحقيق أحد أكثر أهدافها إثارة للجدل خلال السنوات الأخيرة، بعدما تمكنت من السيطرة على تطبيق “تيك توك” الصيني داخل أراضيها، في خطوة تعكس حجم الصراع المتصاعد بين واشنطن وبكين على النفوذ التكنولوجي والإعلامي، لا سيما في ميدان التأثير على الشباب.
وجاء هذا التحول بعد توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يقضي بتحويل ملكية التطبيق داخل الولايات المتحدة إلى ملكية أميركية، عقب مفاوضات طويلة ومحاولات متكررة للحد من نفوذ التطبيق الصيني الذي بات ينافس منصات أميركية كبرى مثل “فيسبوك” و”إنستغرام”.
اتفاق تاريخي بين واشنطن وشركات التكنولوجيا
ووفق ما نقلته وسائل إعلام أميركية، فقد تم التوصل إلى اتفاق يقضي بإنشاء كيان جديد تحت اسم “تيك توك أميركا”، تمتلك فيه شركات “أوراكل” و”إم جي إكس” و”سيلفر ليك” ما نسبته 80% من الأسهم، في حين تحتفظ الشركة الأم “بايت دانس” بحصة تقل عن 20%، وهو ما يضمن توافق الاتفاق مع القوانين الأميركية المتعلقة بالأمن القومي ويحد من سيطرة الصين على المنصة.
وقد اعتُبر الاتفاق داخل واشنطن “صفقة رابح رابح”، إذ أوقف قرار الحظر الشامل للتطبيق الذي كان ترامب قد وقّع عليه وأجّله مراراً، بينما لم يتضح بعد إن كان المستخدمون الأميركيون سيحتاجون إلى تحميل نسخة أميركية جديدة من التطبيق أم سيستمرون باستخدام النسخة الحالية.
دوافع القرار والمخاوف الأمنية
رغم اعتراف ترامب بدور التطبيق في تعزيز حضوره خلال الانتخابات السابقة، فإن إدارته تعاملت مع “تيك توك” بالصرامة نفسها التي واجهت بها التكنولوجيا الصينية الأخرى مثل شبكات الجيل الخامس، إذ ترى واشنطن أن تلك التقنيات تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي.
وتخشى الإدارة الأميركية أن تُجبر الحكومة الصينية شركة “بايت دانس” على تسليم بيانات المستخدمين الأميركيين، بما في ذلك سجلات التصفح والموقع الجغرافي ومعلومات الاتصال، استناداً إلى القوانين الصينية التي تُلزم الشركات بالتعاون مع الأجهزة الأمنية. وتعتقد واشنطن أن التطبيق يمكن أن يُستخدم كأداة تجسس إلكتروني غير مباشر أو للتأثير على توجهات الرأي العام الأميركي.
خوارزميات خارقة تثير الجدل
رغم تراجع معدلات الاستخدام قليلاً منذ ذروتها في عام 2022، حين بلغ متوسط مشاهدة المستخدمين الأميركيين 61 دقيقة يومياً، فإن “تيك توك” لا يزال متفوقاً على جميع منافسيه.
فبحسب تقرير صادر عن مجموعة “إي ماركتر” لأبحاث المستهلكين، بلغت مدة المشاهدة في عام 2025 نحو 52 دقيقة يومياً مقابل 35 دقيقة على “إنستغرام” و30 على “فيسبوك” و26 على “سناب شات”.
ويرجع هذا التفوق إلى الخوارزمية الفريدة التي يعتمدها التطبيق، حيث تقوم بتحليل تفاعل المستخدمين مع المحتوى بشكل تفصيلي، بدءاً من مدة المشاهدة، مروراً بالإعجابات والتعليقات، وصولاً إلى المقاطع التي يتم تخطيها.
وتُظهر التقارير أن هذه الخوارزمية تتيح تدفقاً غير محدود من المحتوى، إذ يستطيع التطبيق فهم اهتمامات المستخدم بدقة متناهية، ثم يغمره بفيض من المواد المشابهة لتلك التي تثير اهتمامه.
ويُعتقد أن هذه التقنية قد تمنح التطبيق قدرة على التأثير غير المباشر في المواقف السياسية والاجتماعية، من خلال تحديد نوعية المحتوى الذي يظهر للمستخدمين، وهو ما أثار قلق دوائر صنع القرار الأميركية.
من منصة ترفيه إلى أداة لتغيير الوعي السياسي
تحوّل “تيك توك” في السنوات الأخيرة من مجرد تطبيق ترفيهي إلى منصة مؤثرة في تشكيل الرأي العام الأميركي.
فقد كشفت دراسة مشتركة بين جامعة هارفارد وشركة هاريس بول أن التطبيق ساهم في تغيير مواقف جيل الشباب الأميركي (18-24 عاماً) تجاه قضايا حساسة، أبرزها الحرب الإسرائيلية على غزة.
وأظهرت نتائج الاستطلاع أن 60% من الشباب الأميركيين في هذه الفئة أعربوا عن تضامنهم مع الفلسطينيين، بينما رفض 71% منهم السياسات الإسرائيلية، واعتبر 63% أن حركة “حماس” ليست المسؤولة الوحيدة عن الصراع. كما رأى 51% أن إسرائيل يجب ألا تبقى دولة يهودية، وهو تحول جذري في المزاج العام الأميركي.
ويعتقد خبراء الإعلام أن هذا التحول يعود إلى قدرة التطبيق على نقل الصور ومقاطع الفيديو الميدانية من مناطق النزاع مباشرة، ما كسر احتكار الرواية الذي كانت تفرضه المنصات الأميركية الكبرى مثل “فيسبوك” و”إنستغرام”، والتي اتُهمت مراراً بتقييد المحتوى المؤيد لفلسطين.
وفي استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2024، تبيّن أن 48% من مستخدمي تيك توك الأميركيين بين 18 و29 عاماً يعتمدون على التطبيق كمصدر أساسي لمتابعة القضايا السياسية، وهو ما جعله يتحول فعلياً إلى منصة إعلامية بديلة تتحدى وسائل الإعلام التقليدية.
تأثيرات عالمية تتجاوز الحدود
لم يتوقف تأثير التطبيق عند حدود الولايات المتحدة، بل امتد إلى مناطق أخرى حول العالم، إذ لعب دوراً محورياً في “ثورة جيل زد” في نيبال التي أدت إلى إسقاط الحكومة، بعدما استُخدم كوسيلة لنقل الأحداث والتحشيد الشعبي.
ويرى مراقبون أن نجاح واشنطن في السيطرة على التطبيق يعيد رسم خريطة القوة الرقمية العالمية، ويفتح الباب أمام نموذج جديد من “الاستحواذ الجيوسياسي على البيانات”.
دعم إسرائيلي وترحيب من نتنياهو
المثير أن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو كان من أوائل المهنئين بالاتفاق، إذ عبّر خلال لقائه مؤثرين أميركيين في القنصلية الإسرائيلية بنيويورك عن سعادته بالصفقة، واصفاً إياها بأنها “أهم عملية شراء تتم حالياً”.
وقال نتنياهو إن تحويل ملكية التطبيق إلى أطراف أميركية موالية لإسرائيل يشكل خطوة استراتيجية تمكّنه من استخدام المنصة في التأثير على الرأي العام العالمي، لا سيما بعد فشله في تلميع صورة إسرائيل خلال اجتماعات الأمم المتحدة.
غير أن هذه التصريحات أثارت موجة غضب عارمة بين الشباب الأميركيين، الذين اعتبروا أن الحكومة الإسرائيلية تحاول استغلال المنصة للتلاعب بالسرديات الإعلامية بعد أن فقدت السيطرة على الخطاب الشعبي.
ختام
بهذا التحول، تكون واشنطن قد أنجزت أول عملية “تأميم رقمي” لتطبيق عالمي، في خطوة تجمع بين السياسة والتكنولوجيا والأمن القومي.
لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون اليوم هو:
هل ستتمكن الولايات المتحدة فعلاً من تحييد الخطر الصيني، أم أنها ببساطة استبدلت نوعاً من السيطرة الرقمية بآخر؟
الأكيد أن معركة النفوذ في الفضاء الرقمي لم تنتهِ بعد، وأن ما جرى مع “تيك توك” قد يكون بداية فصل جديد من الحرب الباردة التكنولوجية بين القوتين الأعظم في العالم.









