الغرب بين موت حضارته القديمة وولادة عالم جديد

ابتعدت الحضارة الغربية في قرونها الأخيرة عن نظيراتها الشرقية إلى حدٍّ بدا معه أنه لم يعد بينهما أي رابط أو مساحة للتفاهم، كما عبّر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي المسلم عبد الواحد يحيى (رينيه غينون) في كتابه الشرق والغرب الذي دوّنه عقب الحرب العالمية الأولى، حين كان الغرب يستعد لصراع داخلي جديد بلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية.
اختار غينون أن يتوجّه نحو الشرق، فغادر وطنه واستقر في القاهرة متصوفًا، بينما كانت أوروبا تغرق في صراعات القوميات وحمى التفوق العرقي، حيث سعى كل طرف لإثبات أحقيته بقيادة العالم واستعباد الشعوب.
انتهت الحرب العظمى لتكشف هشاشة النموذج القومي الشعبوي الذي حكم أوروبا القديمة، فبدأ البحث عن بديل جديد يقود الغرب إلى عصر مغاير. ومن رحم الدمار وُلد ما سُمّي بـ”الغرب الجديد”، الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لتُقيم نظامًا بديلاً يخفف من النزعات القومية ويجمع الدول تحت مظلة “العالم الحر”.
تخلّى هذا الغرب الجديد عن كثير من ثوابته القديمة، ففتح أبوابه أمام شعوب أخرى، وظهر مفهوم العولمة بوصفه حلمًا بتوحيد القيم والحضارات تحت مظلة إنسانية مشتركة. بيد أن هذا الانفتاح لم يكن سوى وجه جديد للهيمنة، إذ ظل الغرب يرى نفسه محور العالم ومصدر المعايير، بينما يُسمح للآخرين بالاندماج فقط إن ساروا على نهجه.
توسعت المنظومة الغربية بفضل الدعم الأميركي، وتحوّلت واشنطن إلى “الضامن الأكبر” لاستمرار الكتلة الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، فبرزت ثنائية “العالم الحر” و”الكتلة الشرقية”، في مشهد يعكس حاجة الغرب الدائمة إلى “نقيض” يعرّف من خلاله ذاته ويبرر تماسكه الداخلي.
ومع مرور العقود، تحولت الهيمنة الغربية من استعمار مادي مباشر إلى استعمار ثقافي وقيمي، يسعى لفرض معاييره على العالم عبر أدوات ناعمة كالإعلام والاقتصاد والتكنولوجيا. غير أن جوهر الغرب، كما يصفه هنتنغتون، ظل “فريدًا لا عالميًّا”، مهما رفع شعارات الحرية والمساواة.
اليوم، يبدو أن هذا “العالم الحر” يترنح أمام تحولات جديدة يقودها صعود التيار القومي في الولايات المتحدة وأوروبا، ويتجسد ذلك في عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي بخطابه القومي الرافض لتحالفات الماضي. فقد أعلن أن زمن تحمّل أميركا لأعباء أوروبا قد انتهى، ما دفع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى القول: “الغرب لم يعد موجودًا كما عرفناه”، بينما حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن “أوروبا قد تموت”.
لكن الحقيقة أن بوادر هذا التفكك لم تبدأ بترامب وحده، بل تعود إلى تصاعد النزعات القومية داخل أوروبا ذاتها، حيث تنامت مشاعر العداء للمهاجرين والاختلافات العرقية والثقافية، مما كشف هشاشة مفهوم “الغرب الحر” من الداخل.
إن ما يعيشه الغرب اليوم ليس مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية، بل صراع على روح الحضارة الغربية نفسها: هل يواصل الغرب طريقه الليبرالي الكوني، أم يعود إلى جذوره القومية الضيقة التي قامت على فكرة التفوق العرقي والثقافي؟
يبدو أن الغرب، الذي وُلد قوميًا ثم أعاد صياغة نفسه ليبراليًا بعد الحربين العالميتين، يقف اليوم أمام مفترق طرق ثالث. فهل نشهد ولادة “غرب جديد” بثوب قومي متشدد؟ أم أن ما يحدث هو بداية أفول حضارةٍ أنهكتها تناقضاتها، وعاجزة عن التوفيق بين قيمها المعلنة وممارساتها الفعلية؟
لقد كانت الحضارة الغربية، كما يقول التاريخ، تعرف ذاتها بقدر ما تنفي الآخر، وتستمد قوتها من صراعاتها الداخلية قبل أن تنعكس على العالم الخارجي. واليوم، وهي تواجه انقساماتها من جديد، ربما تكون بصدد كتابة فصلها الأخير، أو ربما بداية طور جديد، يُعيد تعريف “الغرب” نفسه في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.