دومينيك دوفيلبان.. السياسي الفرنسي الذي قال “لا” للحرب مرتين

حين قررت واشنطن غزو العراق عام 2003، بدت حججها آنذاك متماسكة في نظر الأميركيين الغاضبين، لكنها سرعان ما تهاوت مع مرور الزمن. في ذلك المشهد الذي خيّم عليه صوت الحرب، تجرّأ قلة من الساسة على قول “لا”، وكانت فرنسا، ممثلة بوزير خارجيتها دومينيك دوفيلبان، في مقدمة الأصوات الرافضة. فقد ذكّر الرجل العالم بأن للقانون الدولي لغته، وأن للحرب ثمناً لا يمكن تبريره بالذرائع الواهية
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، رسمت إدارة جورج بوش الابن خريطة واسعة لحربٍ لا تنتهي ضد ما سمّته “التهديد الإرهابي”، فتنوعت الذرائع وتبدّلت الشعارات من “الحرب على الإرهاب” إلى “إنقاذ النساء المسلمات” و”دعم الديمقراطية”، وصولاً إلى “أسلحة الدمار الشامل” التي لم تكن سوى وهمٍ في تقارير أميركية مشبوهة.
في خضم ذلك، قال بوش عبارته الشهيرة: “من ليس معنا فهو ضدنا”، ليفرض على العالم معادلةً قاسية قسمت الشعوب بين طاعة واشنطن أو مواجهتها. وأدّت بعض الأنظمة العربية والإسلامية دور الوكيل الأمني، فظهرت سجون سرية وممارسات تعذيب ممنهجة تحت أسماء بيروقراطية ناعمة.
وبعد عقدين من تلك الحرب، وفي زمنٍ اندفع فيه معظم القادة الغربيين إلى دعم إسرائيل بلا قيد ولا شرط في حربها المدمرة على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، عاد صوت دوفيلبان من جديد، ليكسر صمت أوروبا ويصف ما يجري في غزة بأنه “جنون قاتل” و”تطهير عرقي وجغرافي لشعبٍ بأكمله”. واتهم حكومة بنيامين نتنياهو بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، محذراً من أن الصمت الأوروبي تواطؤ في الجريمة.
استعاد الوزير الفرنسي السابق مكانته لدى الشعوب العربية، كأنه مبعوث جديد لضميرٍ غربيٍ لم يمت بعد. وبين “لا” الأولى في نيويورك عام 2003 و”لا” الثانية في زمن الإبادة في غزة، بقي دوفيلبان متمسكاً بموقفه الأخلاقي؛ يواجه القوة بالحجة، ويذكّر العالم بأن القانون الدولي ليس وجهة نظر.
البداية من الرباط إلى قصر الإليزيه
وُلد دومينيك دوفيلبان في الرباط عام 1953 في أسرة دبلوماسية فرنسية متنقلة بين المغرب وفنزويلا والولايات المتحدة. درس في معهد العلوم السياسية بباريس ثم تخرّج من المدرسة الوطنية للإدارة (ENA)، وهي المدرسة التي خرّجت نخبة الدولة الفرنسية. منذ شبابه، تشبّع بفكرة أن الأناقة اللغوية جزء من هوية الدولة الفرنسية وأن الخطاب السياسي فنّ مدني لا يقل أهمية عن القرار نفسه.
تعرف في الثمانينيات على جاك شيراك، فأصبح أحد أقرب مستشاريه، وتولى لاحقاً منصب الأمين العام للإليزيه بين 1995 و2002، قبل أن يُعيّن وزيراً للخارجية. هناك، صعد نجمه دولياً بخطابه الشهير في مجلس الأمن حين قال: “الحرب اعترافٌ بالفشل”.
خطاب التاريخ في مجلس الأمن
في 14 فبراير/شباط 2003، وقف دوفيلبان أمام مجلس الأمن متحدياً ضغوط واشنطن ولندن. ألقى خطاباً دام 15 دقيقة دخل التاريخ السياسي الحديث، حين أعلن أن فرنسا ترفض الحرب لأن المفتشين الدوليين يحققون تقدماً، وأن استخدام القوة يجب أن يكون “الخيار الأخير”.
قال جملته الهادئة التي دوّت في القاعة: “لا شيء يضمن أن طريق الحرب سيكون أقصر من طريق التفتيش، بل على العكس تماماً”. وعندما أنهى كلمته بـ”Merci”، دوّى تصفيق غير مسبوق في أروقة المجلس، حتى من بعض ممثلي الدول الكبرى، في مشهدٍ نادرٍ من الإجماع الأخلاقي.
كانت تلك اللحظة التي أعادت لفرنسا صورتها كقوةٍ غربيةٍ عاقلة تجرؤ على مخالفة واشنطن باسم القانون والضمير الإنساني.
من الخارجية إلى رئاسة الحكومة
تولى دوفيلبان لاحقاً وزارة الداخلية ثم رئاسة الوزراء عام 2005. حاول التوفيق بين الأمن والحوار الاجتماعي خلال أحداث ضواحي باريس، وأصدر إجراءات لحماية التعايش الديني ومواجهة خطاب الكراهية. ورغم مغادرته الحكومة عام 2007، بقي رمزاً لفرنسا التي ترفض الانصياع للتغوّل الأميركي وتدافع عن قيمها الإنسانية.
أسس بعد ذلك شركة استشارات دولية، وأطلق حزباً سياسياً لمنافسة نيكولا ساركوزي، لكنه انسحب من السباق الرئاسي عام 2012. ثم تحول إلى محلل سياسي ومفكر يكتب عن القيم الجمهورية والعلاقات الدولية، وساند إيمانويل ماكرون في انتخابات 2017 باعتباره خياراً وسطياً أمام صعود اليمين المتطرف.
من بغداد إلى غزة.. المبدأ واحد
مع اندلاع حرب غزة في 2023، عاد دوفيلبان إلى الواجهة بخطابات حادة ضد الجرائم الإسرائيلية. دعا إلى تعليق الاتفاقيات الأوروبية مع إسرائيل وفرض حظر سلاح عليها، وطالب بإحالة قادتها إلى المحكمة الجنائية الدولية.
في مقالاته وتصريحاته، وصف ما يحدث في غزة بأنه “تطهير عرقي وجغرافي” يهدف إلى محو الشعب الفلسطيني، مؤكداً أن الدفاع عن الفلسطينيين هو أيضاً دفاع عن أوروبا نفسها وعن القيم الغربية التي تتآكل تحت وطأة التواطؤ.
واجه اتهامات بمعاداة السامية من بعض السياسيين الفرنسيين، لكنه ردّ قائلاً: “يمكن انتقاد الصهيونية المتطرفة دون كراهية، ويمكن الدفاع عن العدالة للفلسطينيين دون معاداة لليهود.”
رجل دولة وشاعر في زمن القسوة
يؤمن دوفيلبان بأن فرنسا تحمل مسؤولية أخلاقية في الدفاع عن القانون الدولي، سواء في أوكرانيا أو في فلسطين. ويذكّر دائماً بأن المبادئ الجمهورية — الحرية، والمساواة، والأخوة — لا يمكن أن تكون انتقائية.
في مقالاته الأخيرة، استخدم مصطلح “الإبادة الجماعية” لوصف ما يجري في غزة، وهو تعبير غير مسبوق من سياسي فرنسي بهذا المستوى. وهاجم تقاعس أوروبا قائلاً إن الصمت شراكة في الجريمة، وإن الإنسانية لا يمكن أن تكون جزءاً من مشروعٍ استعماريٍ مغطى بلغة الحداثة.
خاتمة: فرنسا الضمير لا القوة
يقول دومينيك دوفيلبان إن العالم لا يحتاج إلى قوة عسكرية جديدة، بل إلى ضميرٍ عالمي يستعيد إنسانيته. وفي كلماته ظلّ يذكّر الغرب بأن الحروب لا تُبنى على الذرائع، وأن العدالة لا تُختزل في خطابٍ سياسيٍ أو صفقة.
وكما قال في نيويورك عام 2003، يكرر اليوم من أجل غزة: “الحرب اعترافٌ بالفشل… والسكوت عن الإبادة جريمةٌ لا تقل عنه بشاعة.”