معركة الذاكرة والحداثة: مصير فندق البحيرة التونسي بين الهدم والاستثمار

يواجه فندق البحيرة، الصرح الفريد في قلب العاصمة التونسية، مصيره المحتوم تحت الجرافات، في قرار هدم أثار جدلاً واسعاً بين مناصري الاستثمار والحداثة، وواجب الحفاظ على التراث والذاكرة الوطنية.
تم تشييد الفندق عام 1973 بتكليف من الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ليكون رمزا لانطلاق قطاع السياحة في البلاد ونافذة على الحداثة. وصممه المهندس الإيطالي رافاييلي كونتيجاني بأسلوب “البروتاليزم” أو العمارة الوحشية، ليصبح مبنىً مقلوب الشكل ألهم، وفق ما قيل، المخرج جورج لوكاس في سلسلة أفلامه الشهيرة “حرب النجوم”.
وبفضل تصميمه الجريء ومزيجه المبتكر من الخرسانة والفولاذ، لم يكن الفندق مجرد مكان للإقامة، بل مصدر اعتزاز وطني، إذ ظهرت صورته لسنوات على البطاقات البريدية، واستضافت غرفه الـ416 فنانين عالميين مثل جيمس براون خلال مرحلة ازدهاره.
وأكد المؤرخ عدنان الغالي أن الفندق يشكل “واحداً من 10 جواهر عالمية ذات طابع معماري وحشي”، معبراً عن خشيته من “خسارة كبيرة للتراث العالمي”.
لكن بريق “نزل البحيرة” بدأ يخفت تدريجياً، إذ أغلق قبل 25 عاماً بسبب مشاكل إدارة، وتحول إلى معلم مهجور، قبل أن تتخذ الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية (لافيكو)، مالك الفندق منذ عام 2010، قرار الهدم مؤخراً.
وأوضح المدير العام للشركة الهادي الفيتوري لوكالة فرانس برس أن الشركة حصلت على “كل التصاريح اللازمة للهدم الذي بدأ في يوليو/تموز 2025″، مشيراً إلى أن “دراسات عديدة أكدت أن المبنى في حالة خراب ويجب هدمه”.
وتخطط “لافيكو” لإنشاء مشروع بديل بقيمة 150 مليون دولار، يتضمن بناء مركز تجاري وفندق فخم من 20 طابقاً، مع وعد بالحفاظ على نفس المفهوم والشكل القديم للمبنى وتوفير أكثر من 3 آلاف وظيفة.
مطالبات بالإنقاذ
ومع بدء أعمال الهدم، اندلعت موجة غضب في صفوف المجتمع المدني، حيث جمعت عريضة إلكترونية نحو 6 آلاف توقيع في أيام، وانتشرت الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأكدت النائبة والمهندسة المعمارية آمال المؤدب أن “الاستثمار والتحديث لا يعنيان الهدم والإزالة من دون الحفاظ على الذاكرة الجماعية والإرث المعماري”، مشددة على “الغموض التام المحيط بالمشروع النهائي” والذي يعد عائقاً أمام أي طعن قانوني محتمل.
وأشارت رئيسة منظمة “إيديفيس إي ميموار” غير الحكومية، صفاء الشريف، إلى غياب أي لافتات رسمية أو معلومات حول طبيعة الأعمال الجارية والمشروع الجديد.
تاريخ محفور في الذاكرة
الفندق نجى سابقاً من الهدم في مناسبتين عامي 2010 و2020، وفي صيف 2022 تم وضعه تحت حماية مؤقتة بفضل حملة إعلامية، قبل أن تُسحب الحماية في أبريل 2023، رغم تقارير تثبت سلامة هيكل الفندق وإمكانية ترميمه.
ويرى خبراء أن هدم “نزل البحيرة” يمثل خسارة تتجاوز حدود تونس. ويؤكد الأستاذ غابرييلي نيري من جامعة تورينو أن الفندق كان “رمزاً للسياق الجيوسياسي لاستقلال الدول الأفريقية”، حيث سعى بورقيبة ونظراؤه لإبراز صورة حديثة ومنفتحة على العالم، مضيفاً أن المبنى شكّل “إنجازاً هندسياً” بقاعدته الأصغر من جزئه العلوي.
ويشير نيري إلى أن العالم يشهد اهتماماً متزايداً بطراز “البروتاليزم”، مثالاً بأوزبكستان التي بدأت إجراءات لإدراج المعالم السوفياتية في قائمة التراث العالمي لليونسكو.
ويرى الخبراء أن الفندق كان يمكن أن يتحول إلى مقصد سياحي ثقافي راقٍ، خصوصاً مع تزايد شعبية العمارة الوحشية، لكن يبدو أن هذه الرؤية تلاشت، لتبقى المعركة محتدمة بين دعاة الحداثة بأي ثمن والمدافعين عن ذاكرة مكان يروي قصة أمة.