حين يصبح الشارع المسرح الوحيد للبوح

عندما تسقط الجسور بين المواطن والدولة، وتتعطل مؤسسات الوساطة، ويغيب صوت العقل في ضجيج المصالح، يصبح الشارع هو المسرح الوحيد للبوح.
لكنها مأساة البوح الأعزل؛ صرخة تبحث عن معنى، في غياب المدرسة، والثقافة، والأحزاب، والضمير الجمعي الذي يوجّه الانفعال نحو البناء لا الانفجار.
الشارع… مرآة الفراغ العام
الشارع لا يصرخ عبثًا، بل يعكس ما لم يُقال داخل المؤسسات.
إنه صدى انهيار المدرسة حين تفقد قدرتها على التربية، وانطفاء الثقافة حين تُهمَّش، وصمت الأحزاب حين تستبدل الفكر بالمصلحة.
عندها يتحول البوح الشعبي إلى بوحٍ أعمى، لأن الأصوات التي لا تجد من يصغي لها، تصرخ في الفراغ.
الهروب من الحرية: قراءة مع فروم
حذر إريك فروم من هذا الانفجار النفسي حين تحدث عن “الهروب من الحرية”، إذ يرى أن الإنسان، حين يعجز عن فهم ذاته وسط الفوضى، يهرب إلى الجماعة ليتلاشى فيها، باحثًا عن دفءٍ زائفٍ وانتماءٍ مؤقت، حتى وإن ساقه إلى الهاوية.
وهكذا يصبح الغضب الجماعي ملاذًا من العجز الفردي، لكنه أيضًا طريقٌ إلى التدمير الذاتي إن غاب الوعي.
من الفكرة إلى الصرخة إلى الحجر
حين لا تجد الفكرة من يؤطرها، تمر بمراحل موتها البطيء:
تبدأ فكرة، ثم تتحول إلى شعار، ثم إلى صرخة، ثم إلى حجر.
وهنا يبدأ مسار العنف الجماعي: انفعال مشروع، يتفاقم في غياب التأطير ليصبح طاقة هدم بدل أن يكون طاقة وعي.
دور النخبة والمربين
إن وظيفة النخبة ليست فقط الدفاع عن مطالب الشعب، بل حمايته من نفسه عندما تتحول المطالب إلى فوضى.
فالشعوب لا تُبنى بالاحتجاج وحده، بل:
بالتعليم القوي،
والمدرسة التي تُنتج عقولا ناقدة،
وأحزاب لا تتاجر بالغضب بل تؤطره،
وإعلام يشرح بدل أن يُحرّض.
“الوعي لا يُصنع في الشوارع، بل في العقول التي تزرع المعنى قبل أن تزرع الغضب.”
أزمة تأطير أم أزمة معنى؟
ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة مطلبية، بل أزمة تأطير ومعنى، أزمة في إنتاج الإنسان المواطن — المفكر، لا المنفعل.
ذلك الإنسان الذي يصرخ حين يجب أن يصرخ، ويتوقف حين يجب أن يتوقف، ويفكر دائمًا قبل أن يتحرك.
كارل يونغ والبنية النفسية للأمم
يقول كارل يونغ إن الجماهير هي المرآة التي تعكس الخلل النفسي العميق للأمم.
فإذا احترق الشارع، فاعلم أن هناك عقلا غائبًا، وسياسةً عمياء، ومؤسسةً مفقودة، ومشروعًا حضاريًا مؤجلاً.
إننا نطفئ حرائق الغضب كل مرة، دون أن نسأل من أين يأتي الحطب.
إعادة التأسيس: دولة الوعي قبل دولة القانون
إن المطلوب اليوم ليس تهدئة الغضب فحسب، بل إعادة تأسيس موريتانيا على قاعدة الوعي والمعرفة.
وليس في ذلك مصادرة لمكتسبات الدولة القديمة أو إقصاء رموزها، بل إشراكها في مشروع وطني جامع، شرط أن يلمس المواطن أن العدالة أصبحت ممكنة، وأن دولة القانون لم تعد وعدًا مؤجلاً بل عقدًا اجتماعيًا حيًا.
خاتمة
حين نعيد الاعتبار للمدرسة، ونحرر الثقافة من الهامش، ونُعيد السياسة إلى معناها الأخلاقي،
حينها فقط سيتحوّل الشارع من مسرحٍ للبوح إلى ساحةٍ للفكر،
وحين يتكلم الوعي، يصمت الحجر.
حمادي سيدي محمد آباتي