الدولة العميقة في موريتانيا بين الظاهر والخفي: مقارنة مع مصر وتركيا

كثيرًا ما يتردد مصطلح “الدولة العميقة” في النقاشات السياسية والإعلامية، لكن معناه يظل ملتبسًا عند عامة الناس. فهل هي حكومة سرية؟ أم شبكة نفوذ تعمل من وراء الستار؟
الحقيقة أن الدولة العميقة ليست كيانًا رسميًا، بل منظومة مصالح متجذرة تتجاوز الحكومات والرؤساء، وتملك القدرة على توجيه القرارات أو عرقلة التغيير. وإذا كان هذا المفهوم حاضرًا بقوة في تجارب مثل مصر وتركيا، فإن موريتانيا بدورها تقدم نموذجًا خاصًا يختلف في بنيته وآلياته.
موريتانيا: شبكة متعددة الرؤوس
في الحالة الموريتانية، تبدو الدولة العميقة أقل تنظيمًا وأكثر تشعبًا مقارنة بغيرها.
الجيش هو الفاعل الأساسي منذ انقلاب 1978، سواء عبر الحكم المباشر أو النفوذ غير المعلن.
القبيلة والروابط الجهوية لا تزال تتحكم في توزيع المناصب والموارد، فتجعل السياسة انعكاسًا لموازين القوى التقليدية.
البيروقراطية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية تلعب دورًا في إبطاء أي إصلاحات جذرية.
رجال الأعمال أصبحوا بدورهم جزءًا من شبكة النفوذ، خصوصًا في تمويل الحملات الانتخابية والصفقات الكبرى.
الشرعية الدينية عبر الزعامات الروحية والطرق الصوفية تضفي غطاءً اجتماعيًا على خيارات الدولة.
بهذا المعنى، الدولة العميقة في موريتانيا ليست مؤسسة واحدة متماسكة، بل تحالف مرن بين الجيش والقبيلة والمال والدين، يضمن استمرار التوازنات حتى مع تغيّر الرؤساء.
مصر: الدولة العميقة المؤسسية
في مصر، الصورة مختلفة. هناك دولة عميقة مؤسسية وصلبة:
الجيش يملك نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا واسعًا.
أجهزة الأمن والقضاء والإدارة تشكل كتلة متماسكة قادرة على إفشال أي تغيير لا يخدم مصالحها.
رجال الأعمال مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بهذه المنظومة.
ولذلك، بعد ثورة 2011، ظهر بوضوح كيف نجحت هذه الشبكة في امتصاص الصدمة وإعادة ترتيب السلطة وفقًا لمصالحها.
تركيا: الدولة العميقة الأيديولوجية
أما في تركيا، فقد ارتبط مفهوم الدولة العميقة بـ”الهوية الكمالية”.
الجيش كان يعتبر نفسه حارسًا للجمهورية العلمانية.
القضاء والأمن شكلا أدوات لحماية هذه الهوية.
ظهرت شبكات سرية مثل منظمة “أرغنكون” التي مزجت بين السياسة والمافيا والأجهزة الأمنية.
وبالتالي، الدولة العميقة التركية ليست مجرد شبكة مصالح اقتصادية أو قبلية، بل مشروع أيديولوجي لحماية هوية الدولة.
الفوارق والخصوصيات
في موريتانيا: الدولة العميقة شبكة متعددة الرؤوس (جيش + قبيلة + مال + دين).
في مصر: الدولة العميقة مؤسسة قوية وهرمية (جيش + بيروقراطية + اقتصاد).
في تركيا: الدولة العميقة أيديولوجية تدافع عن هوية سياسية وثقافية محددة.
خاتمة
تكشف المقارنة أن مفهوم الدولة العميقة يختلف باختلاف السياق. فهي في موريتانيا ليست كتلة صلبة بل نسيج معقد من الولاءات التقليدية والعسكرية والاقتصادية. هذا النسيج يجعل أي إصلاح سياسي مرهونًا بالمساومات والتوازنات الداخلية، لا بمجرد صناديق الاقتراع.
وبينما يواجه المصريون دولة عميقة مؤسسية صلبة، والأتراك دولة عميقة أيديولوجية، فإن الموريتانيين يتعاملون مع دولة عميقة شبكية، قد تبدو أضعف تنظيميًا لكنها أكثر رسوخًا في البنية الاجتماعية.
حمادي سيدي محمد آباتي