اقتصاد

بنغازي ودرنة: مسارات نهوض اقتصادي وعمراني وسط هشاشة سياسية في شرق ليبيا

تتصدر مدينتا بنغازي ودرنة في شرق ليبيا المشهد الاقتصادي والعمراني، في وقت تتسم فيه البيئة السياسية بالهشاشة وتواجه المنطقة تحديات تنموية معقدة. فبينما تستعيد بنغازي دورها كمركز اقتصادي وإداري محوري، تواصل درنة تعافيها من تداعيات الإعصار المدمر الذي اجتاحها في سبتمبر/أيلول 2023.

ورغم اختلاف مسارات التعافي، تتقاطع رؤى المدينتين عند الطموح المشترك لاستعادة الدور التنموي لشرق ليبيا ضمن خارطة المستقبل.

حراك عمراني واسع في بنغازي

منذ الإعلان عن خطة بنغازي الكبرى 2025، شهدت المدينة نشاطاً عمرانياً غير مسبوق، شمل مشاريع جسور حديثة، ومطاراً دولياً جديداً في منطقة تيكة شرقي المدينة، ضمن جهود السلطات لتحويل بنغازي إلى مركز اقتصادي محوري على مستوى البلاد.

وأظهرت بيانات مجلة أفريكان بزنس وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن مشاريع الطاقة والمياه حصلت على نصيب كبير من التمويل، مع رفع إنتاج الكهرباء الوطني إلى 8200 ميغاوات وإنشاء 62 محطة معالجة مياه جديدة، من بينها محطات عدة في بنغازي.

ومع ذلك، تواجه المدينة انقطاعات متكررة للكهرباء خلال فترات الذروة المناخية، إضافة إلى ضغوط على شبكات الصرف الصحي وخدمات الإسكان في الأحياء الشعبية، نتيجة ضعف الرقابة المؤسسية وتداخل الصلاحيات بين الجهات المعنية.

انفتاح استثماري ودور القطاع الخاص

نجحت بنغازي في استقطاب اهتمام دولي، حيث وقعت 17 مذكرة تفاهم مع شركات إيطالية شملت قطاعات البناء والطاقة والتحول الرقمي، واستضافت المنتدى الاقتصادي الليبي الإيطالي ومعرض “ليبيا بيلد 2024″، مما عزز ثقة المستثمرين الأجانب بشرق ليبيا.

كما تستمر شركات محلية مثل الخليج العربي للنفط في لعب دور أساسي بالاقتصاد المحلي، مع توسع ملحوظ في صناعات الغذاء والتجزئة، وظهور علامات تجارية عالمية يعكس تحسناً نسبياً في القدرة الشرائية، رغم استمرار السوق الموازية والاعتماد الكبير على التعاملات النقدية.

تحديات هيكلية ومشاريع مثيرة للجدل

رغم الزخم العمراني، تواجه بنغازي تحديات بنيوية عميقة، إذ تحتل ليبيا المرتبة 173 من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد لعام 2024.
وتثير عمليات التهجير القسري وهدم الأحياء التاريخية مثل حي الصابري وميدان الشجرة انتقادات واسعة، خاصة مع غياب تعويضات مناسبة، ما يهدد ثقة السكان بمشاريع الإعمار. وفق تقارير هيومن رايتس ووتش ووكالة “أسوشيتد برس”، تم تهجير أكثر من 20 ألف شخص منذ عام 2017 دون خطط واضحة لإعادة الإسكان.

درنة: إعمار طارئ وبداية اقتصادية من الصفر

بعد الكارثة البيئية التي دمرت ربع مدينة درنة وأودت بحياة أكثر من 4 آلاف شخص في سبتمبر/أيلول 2023، باتت المدينة مختبراً لتجربة إعادة الإعمار في ليبيا. ووفق تقييم مشترك للبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بلغت الخسائر نحو 1.65 مليار دولار مقابل احتياجات تُقدّر بما لا يقل عن 1.8 مليار دولار.

خصص لصندوق الإعمار نحو 10 مليارات دينار ليبي (1.84 مليار دولار) تحت إشراف نجل القائد العسكري المشير خليفة حفتر، لكن تقارير صحفية شككت في شفافية المشاريع ومردودها الفعلي.

ورغم إعلان السلطات إنجاز نحو 70% من أعمال الإعمار، تُظهر الشهادات الميدانية تفاوتاً كبيراً في جودة التنفيذ، مع وجود شبهات فساد تعرقل التقدم الحقيقي.

اقتصاد درنة يعتمد حالياً على مشاريع الإعمار الحكومية، مع غياب استثمارات أجنبية أو نشاط واضح للقطاع الخاص، لكن بوادر تحول بدأت تظهر عبر برامج ريادة الأعمال المدعومة من منظمات مثل “سبارك” و”أكتد”، مع اهتمام الشباب بمشاريع بيئية وصحية وتقنية.

وفي خطوة رمزية، عقد مصرف ليبيا المركزي أول اجتماع رسمي له في المدينة يناير/كانون الثاني 2025، معلناً عن مبادرة لإنشاء صناديق استثمارية للمساهمة في التنمية المحلية، كما استضافت درنة بطولة أفريقيا للكرة المصغرة يوليو/تموز 2025، ما عزز حضورها الإعلامي والسياحي رغم ضعف البنية الفندقية.

هشاشة بنيوية ومخاطر مناخية

تظل البنية المائية والتأهب المناخي أبرز نقاط الضعف في درنة، إذ لم تُنشأ بنية بديلة للسدين المنهارين، بينما مياه الشرب غير آمنة لنحو نصف السكان، مع تزايد حالات الإسهال والتلوث. ويحذر خبراء من تكرار كارثي محتمل في حال عدم اعتماد خطة علمية لإدارة المياه والفيضانات.

مسارات متوازية وقيود مشتركة

رغم اختلاف السياقين، تتقاطع بنغازي ودرنة عند مجموعة من التحديات:

  • الفساد وضعف الرقابة: من مشاريع الإعمار إلى البنية التحتية، الشفافية غائبة.
  • غياب التخطيط طويل الأمد: الرؤى التنموية محصورة في إعادة الإعمار دون استراتيجيات مستدامة.
  • التبعية لقطاع النفط: يهيمن على الاقتصاد بلا تنويع فعلي للموارد.
  • الهشاشة المناخية: من العجز المائي في بنغازي إلى التهديدات المناخية في درنة، تُعد إدارة المياه محورياً.

مع ذلك، يشير تقرير حديث للبنك الدولي إلى نمو القطاع غير النفطي بنسبة 7.5% عام 2025، ما يفتح آفاقاً للمدينتين في حال تحسين مناخ الأعمال وضمان الاستقرار المؤسسي والإداري.

زر الذهاب إلى الأعلى