تحقيقات

قضاء الوزراء لعطلهم داخل الوطن: وطنية شكلية أم تغطية على الفساد؟

في سابقةٍ تُسوَّق على أنها تضامن مع الداخل ودعم للسياحة الوطنية، صدرت توجيهات لأعضاء الحكومة الموريتانية بقضاء عطلتهم السنوية داخل البلاد، مع التلميح إلى أن السفر إلى الخارج تصرف “غير وطني”. يبدو هذا القرار في ظاهره عملاً رمزيًا محمودًا، لكنه في العمق يثير تساؤلات دستورية وأخلاقية تتجاوز بكثير ظاهر الوطنية.

فالدستور الموريتاني واضح في ضمانه لحرية التنقل، ولا توجد أي مادة تُجيز تقييد تلك الحرية لأعضاء الحكومة، مهما كانت المبررات السياسية أو الرمزية. بل إن محاولة فرض “الوطنية القسرية” عبر المنع أو التحايل على القانون تكشف عن خلل أعمق في فهم العلاقة بين السلطة والقانون.

الواقع أن أغلب الوزراء في الحكومات المتعاقبة لا يُعيَّنون على أساس الكفاءة أو الخبرة، بل بناء على توازنات قبلية وجهوية، تُراعي المحاصصة أكثر مما تُراعي معايير الدولة الحديثة. وهذا ما يجعل الوزير، خلال العطلة، مضطرًا للبقاء قريبًا من قواعده الاجتماعية، خشية فقدان “الولاء” أو “النفوذ” في دوائره، وهو ما يضعه أمام سلسلة من الالتزامات الاجتماعية المكلفة.

والمفارقة أن هذه التكاليف لا تُغطّى غالبًا من أمواله الخاصة – التي تُفضَّل للعائلات والأصدقاء في الخارج – بل من ميزانيات الوزارات، تحت غطاء “الزيارات الداخلية” أو “الأنشطة الميدانية”. والأسوأ من ذلك أن البعض يضطر لتقديم مبالغ مالية للمخبرين أو المرتبطين بالأجهزة، حتى لا يُبلغ عنهم إن قرر السفر سرًّا أو إرسال أسرته إلى الخارج، مما يجعل من هذه التوجيهات مدخلًا إضافيًا للابتزاز المؤسسي والفساد المقنّع.

ما يحدث هو عبث مزدوج: خرق للدستور من جهة، وفساد إداري من جهة أخرى، تُشرّعه سياسات تُوصف بالرمزية لكنها تُمارَس بانتقائية، وتُستثمر أحيانًا لتصفية الحسابات داخل دوائر النفوذ.

بدلاً من هذه السياسات العبثية، فإن المعركة الحقيقية ضد الفساد تبدأ من إعادة الاعتبار لمعايير التعيين على أساس النزاهة والكفاءة، لا على أساس الوزن القبلي أو الجهوي. كما أن احترام الدستور لا يمكن أن يكون انتقائيًا، يُفرض على المواطن ويُعلَّق على رقاب المسؤولين بشروط “الولاء”.

لا يمكن للوطنية أن تُفرض بمرسوم، ولا يمكن لمحاربة الفساد أن تُختزل في منع الوزراء من السفر. الوطنية تُبنى بالعدالة، والقدوة، واحترام القانون، لا بالتظاهر أمام الكاميرات أو تغطية مظاهر الفشل بتوجيهات سامية.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى