الحمض النووي يكشف الملامح: “ديفايس” نموذج ذكاء اصطناعي يحوّل الجينات إلى وجوه ثلاثية الأبعاد

في عصر تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات متقدمة لتحديد الهوية، يبرز الوجه البشري كعلامة بيومترية فريدة، تحمل توقيعًا جينيًا مميزًا لا يمكن تكراره. ورغم أن التعرف البصري على الوجوه لطالما لعب دورًا محوريًا في التفاعل اليومي والطب الشرعي، فإن الثورة الجينية والذكاء الاصطناعي أطلقت العنان لاتجاه علمي أكثر طموحًا: استعادة ملامح الوجه من الشيفرة الوراثية فقط.
ومع تعقيد التداخل بين العوامل الجينية والبيئية في تشكيل ملامح الوجه، ظل التنبؤ الدقيق بهذه السمات من الحمض النووي تحديًا بالغًا. إلا أن ظهور نماذج توليدية متقدمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، فتح آفاقًا جديدة لإعادة بناء الوجه البشري من المادة الوراثية.
“ديفايس”: تقنية واعدة تستعيد الوجوه من الجينات
في دراسة حديثة نُشرت بمجلة Advanced Science، قدّم باحثون من الأكاديمية الصينية للعلوم نموذجًا جديدًا أطلقوا عليه اسم “ديفايس” (Difface)، يتيح توليد صور ثلاثية الأبعاد لوجوه البشر بالاعتماد على الحمض النووي فقط.
يرتكز “ديفايس” على مجموعة من تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، مثل التعلم متعدد الوسائط، ومحولات التشفير (Transformers)، والتلافيف الحلزونية، ونماذج الانتشار (Diffusion Models)، لتوليد ملامح وجهية واقعية انطلاقًا من متغيرات جينية تُعرف بتعدد أشكال النوكليوتيد المفرد (SNPs).
وأوضح الباحث لونين تشين أن “ديفايس” نجح في بناء صور وجه ثلاثية الأبعاد تعكس ليس فقط الملامح الوراثية الحالية، بل أيضًا التغيّرات المحتملة مع التقدم في العمر.
دقة عالية رغم التحديات
تم تدريب النموذج على بيانات تشمل أكثر من 9600 عينة جينية وصور مسح ثلاثي الأبعاد لوجوه أشخاص من العرق الهان الصيني. وأظهرت النتائج قدرة “ديفايس” على إعادة بناء الملامح بدقة كبيرة، حيث بلغت المسافة الإقليدية بين الوجوه الحقيقية والمولدة نحو 3.5 مم باستخدام البيانات الجينية فقط، وانخفضت إلى 2.93 مم عند إضافة متغيرات مثل الجنس والعمر ومؤشر كتلة الجسم.
كما حقق النموذج نسبة مطابقة أولى (Rank-1) بلغت 3.33%، ومنطقة تحت المنحنى (AUC) بنسبة 80.7%، ما يعكس أداءً واعدًا في التعرف والتحقق.
الخصوصية الجينية والأخلاقيات تحت المجهر
ورغم التقدم التقني اللافت، يثير استخدام “ديفايس” إشكاليات أخلاقية جوهرية تتعلق بالخصوصية الجينية، خاصة في مجالات مثل أنظمة المراقبة أو إنفاذ القانون. فالقدرة على توليد وجه من حمض نووي مجهول الهوية قد تُستغل في انتهاك الخصوصية أو التمييز الوراثي.
وقد شهد العالم بالفعل جدلًا مماثلًا، كما في حادثة شرطة إدمنتون عام 2022، حين طُلب من العامة التعرف على وجه مُركّب رقميًا لمشتبه به، استُخرج من حمض نووي دون تفسير كافٍ للطريقة، ما أثار انتقادات حول الشفافية واحتمالات الإضرار بالأبرياء.
أكد الباحثون أن الجانب الأخلاقي لم يُغفل، بل جرى الالتزام بإجراءات مراجعة مؤسسية صارمة، وتقييد استخدام البيانات الجينية لأغراض بحثية فقط. إلا أن الحاجة تظل ملحّة لوضع إطار تشريعي وأخلاقي دولي ينظّم هذا النوع من الابتكار ويوجّهه نحو استخدامات آمنة ومنصفة.
مستقبل التقنية.. من المختبر إلى الواقع
يفتح “ديفايس” آفاقًا واسعة في الطب الشرعي، والطب الشخصي، والبحوث الجينية، إذ يتيح إعادة بناء الوجوه حتى من عينات حمض نووي جزئية أو تالفة. وفي اختبارات ميدانية، تمكن المستخدمون من مطابقة الوجوه الحقيقية بالمولدة بنسبة دقة تجاوزت 75%.
لكن مع ذلك، لا يزال النموذج بحاجة إلى توسيع قاعدة بياناته لتشمل أعراقًا وخلفيات وراثية متعددة، لضمان تعميم نتائجه وتفادي التحيزات.
سؤال المستقبل: التقنية أم القيم؟
في نهاية المطاف، لم يعد السؤال العلمي الأهم هو: “هل يمكن التنبؤ بوجه الإنسان من حمضه النووي؟” بل: “كيف يمكن استخدام هذه القدرة بمسؤولية؟”
سؤال يعكس التحدي الأخلاقي والتقني الذي يواجه مجتمع العلم، ويضع الذكاء الاصطناعي في مواجهة اختبار مزدوج: إثبات الدقة، وضمان العدالة.