متى ينقلب الصبر نارًا؟

عن الصمت على الظلم، والرضا بالمذلة، وتحنيط الوعي
“لقد بُلينا بأقوام يظنون أن الله لم يهد سواهم” – ابن سينا
في زاويةٍ مظلمة من وجدان مجتمعاتنا، تتربّص فكرة خطيرة:
أن الفقر قدرٌ مقدس،
وأن الصبر على الظلم نوعٌ من الإيمان،
وأن الرضا بالواقع المزري مدخل إلى الجنة.
إنها فلسفة قُدّمت على موائد الجهل، وباركتها أنظمةٌ تسلّطت باسم الدين والعرف، فحوّلت الكرامة إلى تهمة، والتمرد إلى كفر.
دعاة جنة… لا يطعمون يتيماً
لقد ابتُلينا، كما قال ابن سينا، بجماعةٍ تُنصّب نفسها “ممثلاً لله”، وتتكلم باسمه، وتزعم امتلاك مفاتيح الجنة.
يدعون الناس إليها عبر “علماء” لم يحركوا ساكناً أمام جوع الأطفال، ولا فتحوا موائدهم للأيتام،
بينما البلاد تمتلئ بالمتسولين وماسحي الأحذية والعاطلين عن الأمل.
“الظلم مؤذنٌ بخراب العمران” – ابن خلدون
إن أخطر ما تفعله هذه الطبقة ليس فقط تضليل الناس، بل تعطيل الوعي وتجريم الأسئلة، حتى يبقى الفقير صامتاً، والمحروم قانعاً، والمظلوم خائفاً.
لكن… للصبر حدود.
حين ينفجر الصبر
في كل مجتمعٍ يُمنع فيه الفقير من العلم والكرامة،
وفي كل نظامٍ يُقابل فيه الحُلم بالقمع،
تكون نهاية الصبر ثورة، أو عنفاً، أو انتقاماً.
فالفقير الوديع ليس آلة صمت.
وإذا حُرم من التعليم، وسُدّت أمامه أبواب الوعي، تحول إلى خطر على السلم الأهلي.
“حين يُسحق الإنسان تمامًا، لا يعود يُفكر في العدالة، بل في الانتقام” – جان جاك روسو
إنه انفجار مؤجل، تغذّيه التفرقة الطبقية، وسلطة النخبة، واحتكار الثروة والتعليم من طرف أبناء الكوميات، وأبناء التراحم، ومن خَلَّفَهم المستعمر بعد أن صنعهم من عاهرات المدن وأبناء الزنا الذين احتواهم في سنلوي، ودرّسهم في مدارس تُعلِّم تنفيذ الأوامر لا صناعة القرار.
حين يُصبح الجهل سياسة
أسوأ من الظلم، هو أن يُمنع المظلوم من إدراك أنه مظلوم.
وهذا ما تفعله السياسات التعليمية والإعلامية في الكثير من مجتمعاتنا: تخدير الفقراء بمفاهيم “الرضا” و”القدر”، بدل تثقيفهم بحقوقهم.
“التعليم هو إشعال النار، لا ملء وعاء” – أفلاطون
إنهم لا يخشون ثورة الجياع، بل يقظتهم.
لذلك يُحاصَر كل مشروع وعي، ويُحرَّض ضد كل من يدعو إلى إصلاح حقيقي.
إعادة تعريف القدر
إن الفقر ليس قدراً إلهياً، بل سياسة بشرية.
وأن نُصِرَّ على تقديس المعاناة، فهذا جهلٌ مضاعف.
علينا أن نُعيد تعريف “الرضا” لا كقناعة بالمذلة،
بل كقوة داخلية تدفع الإنسان لتغيير حاله.
فالرسالة السماوية لا تُحرّم الثورة على الظلم،
بل تُحرّم السكوت عليه حين يكون مزمناً ومُمَنهجاً.
نهاية الوهم وبداية الوعي
إذا أرادت موريتانيا، وسواها من دول التفقير والتجهيل، النجاة من الانفجار القادم،
فعليها أن تفتح أبواب التعليم والكرامة لكل طفل، لا حسب نسبه أو قبيلته، بل حسب حاجته وعقله وطموحه.
“أعطني شعباً واعياً، أعطك وطناً متماسكاً”
ليس التعليم رفاهية، بل صمّام أمان.
وليس السؤال جريمة، بل بداية الشفاء.
وليس الحُلم ترفاً، بل واجب.
خاتمة: الصبر ليس طاعة عمياء
الصبر، حين يتحول إلى قبولٍ دائم بالذل، لا يُعد فضيلة.
وحين يُستخدم الدين لتبرير الاستسلام، يصبح الظلم مقدساً، والجهل فضيلة.
لكننا نعلم، ويعلم التاريخ معنا، أن صبر الشعوب لا يدوم طويلاً…
وأن أول الغضب سؤال، وأوسطه وعي، وآخره ثورة.
حمادي سيدي محمد آباتي