ثقافة

مياه النهر وخصوبة النفاق: قراءة في جغرافيا التلون بين موريتانيا والسنغال

يقول المؤرخون إن الجغرافيا تصنع التاريخ، ولكن قلما نتأمل في أن الجغرافيا قد تصنع أيضاً طباع الناس وأخلاقهم الجمعية، فتغذي بعض الظواهر المَرَضية حتى تصير جزءاً من مزاج المجتمع. ولعل من أكثر الأمثلة إيضاحاً لهذا الافتراض ما نلاحظه من تشابه صارخ بين مظاهر النفاق السياسي والاجتماعي المستشرية في مجتمعات حوض نهر السنغال، بين ضفتيه الموريتانية والسنغالية على حد سواء.

لقد شكّل نهر السنغال شريان حياة لكلا الشعبين، فجعلهم في تربة واحدة من حيث أنماط العيش والبقاء، لكنه على ما يبدو، جرف معه أيضاً قابلية بارعة لتغيير الولاءات ولتلوين الخطاب تبعاً لمصلحة آنية أو قوة غالبة.

شواهد موريتانية: من المختار إلى عزيز

من يقرأ مذكرات الآباء المؤسسين للدولة الموريتانية — وخاصة المرحوم المختار ولد داداه — يلمح في طياتها إحساساً بمرارة هذا السلوك المتقلب. لقد خبر كيف يتحول المديح إلى هجاء، وكيف يتقافز بعض المقرّبين من مركب لآخر كلما تغير الرياح.
وفي عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، تكثفت هذه الصورة بأبهى تجلياتها: فمن قائلٍ إن «التعليم إذا لم يصلح في عهد عزيز فلن يصلح أبداً» إلى من بالغ أكثر فجعله «أفضل من الماء والكهرباء» — نفس هؤلاء اليوم حاضرون في مواقع النفوذ، أو على الأقل في الصفوف الأمامية كمستشارين أو ممثلين عبر أبنائهم وأحفادهم!

إنها ظاهرة متجذرة، تتجاوز الأفراد لتستقر في منظومة العقل الجمعي، تضمن البقاء لمن يبرع في ارتداء الأقنعة وتغيير المواقف.

السنغال: قصص جيوف وأنصار كل سلطة

في السنغال كذلك، يروي الرئيس الأسبق عبدو ضيوف في مذكراته حكايات تكاد تُنسَخ حرفياً من حكايات موريتانيا: شيخ دين يركض وراء امتياز في عهد ضيوف، يتجاهله حين يغادر الرئاسة؛ رجلٌ يهتف بولاية بفضل الرئيس، وما إن تتبدل الأسماء حتى يعلن ولاءه الفوري للخليفة الجديد.
إنه تطابق مثير في التفاصيل، يجعلك تتساءل: هل هذا مجرد «سلوك بشري» طبيعي أم هو نتاج نمط معيشي ظل لقرون رهين تدفقات النهر ومزاج الطبيعة؟

مصر ونيلها: تأصيل للمقارنة

إن أردنا مزيداً من الاستدلال الجغرافي، فليس أفضل من مثال مصر — هبة النيل — حيث ظل المصريون يزرعون الدلتا لكن لم يحكمهم مصري خالص النسب حتى عهد عبد الناصر. فسلاطينهم وأباطرتهم وفراعنتهم من قبلهم كثيراً ما جاؤوا من خارج الوادي، ليحكموا شعباً متفرغاً للزراعة، مطمئناً إلى أن الفيضان السنوي كافٍ لاستمرار حياته. فالاعتماد المطلق على مورد طبيعي واحد قد يخلق مجتمعاً مهادناً يتكيف مع المتغلب، ولا يشغله كثيراً من أين جاء رأس السلطة.

جغرافيا النهر: هل تصنع طباع النفاق؟

إذاً، هل تُفسر طبيعة النهر الذي يفيض ثم ينحسر ثم يفيض ثانية، كيف تأقلم الناس مع التقلب، وكيف تعلموا أن يمدحوا كل سلطة «ما دامت الفيضان جارياً»؟
ربما نعم. إنها فرضية تستحق التأمل، خاصة إذا علمنا أن المجتمعات الصحراوية، الأقل اعتماداً على نهر دائم، طوّرت بالمقابل نمطاً مختلفاً من الولاء يقوم على العصبية والوفاء المستميت حتى الفناء أحياناً.

خاتمة: ظاهرة عابرة للأجيال

يبقى النفاق سلوكاً مرفوضاً أخلاقياً، لكنه في هذه المنطقة لا يزال يجد تربة خصبة بين ضفاف النهر ودهاليز الحكم. وهو أمرٌ يوجب على الباحثين أن يربطوا بين الجغرافيا والسياسة والأخلاق الجمعية، لفهم ظواهر مثل «الوجهين» و«حمل المباخر» كجزء من ثقافة يجب نقدها لا توريثها.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى