موريتانيا بين مؤشرات الأزمة وإمكانات استعادة التوازن: مقاربة تحليلية في الواقع السياسي الراهن

تعيش موريتانيا في المرحلة الراهنة حالة من التوتر السياسي والاجتماعي تتقاطع فيها مؤشرات متعددة تشير إلى وجود اختلالات بنيوية ووظيفية، من دون أن ترقى إلى مستوى الأزمة السياسية الكاملة بالمعنى النظري. ورغم أن آليات الضبط المؤسسي لا تزال تعمل، فإن البيئة المحيطة بها تشهد تراجعًا في الثقة، وتوسعًا في الاستقطاب، وانسدادًا في قنوات الحوار. تقدم هذه الدراسة قراءة في الوضع السياسي الموريتاني، وترصد مؤشراته، وتقارنها بأطر التحليل السياسي الحديثة، وتقترح مسارات للحوار الوطني باعتباره مدخلًا لتجاوز التحديات الراهنة.
مقدمة
يُعد توصيف الأزمات السياسية من أكثر الإشكالات تعقيدًا في العلوم السياسية، نظرًا لتداخل أبعادها المؤسسية والاجتماعية والاقتصادية. وترى الأدبيات الكلاسيكية – من لينز إلى إيستون وهنتنغتون – أن الأزمة السياسية لا تنشأ بمجرد وجود خلافات داخلية، بل حين تتعرض “قواعد اللعبة السياسية” للاهتزاز، أو حين تفشل المؤسسات في احتواء التوترات عبر آليات الضبط المعتادة.
في الحالة الموريتانية، ورغم استمرار عمل المؤسسات الدستورية من دون تعطّل، فإن عدداً من المؤشرات المتراكمة تُظهر بوضوح أن البلد يعيش حالة توتر سياسي–اجتماعي مرتفع، وتراجعًا في الثقة الشعبية، مع توسّع دوائر الاستقطاب وضعف الحوار، إضافة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية معقدة. هذا الوضع يثير سؤالًا جوهريًا: أين تقف موريتانيا اليوم من مفهوم الأزمة السياسية؟ وما نوع الحوار المطلوب لاستعادة التوازن؟
أولًا: مؤشرات الأزمة السياسية في السياق الموريتاني
- تراجع الثقة الشعبية رغم استمرار عمل المؤسسات
تظهر البيانات والانطباعات المجتمعية وجود مراجعة شبه عامة للثقة الشعبية في الأداء الحكومي والمؤسسي. ورغم أن مؤسسات الدولة لم تتعرض للشلل، فإن هذا التراجع يمسّ ما يسميه إيستون “الدعم السياسي للنظام”، ويجعل الشرعية الواقعية في حالة ضعف مقارنة بالشرعية القانونية.
- انقسام داخل الطبقة السياسية حول قواعد التداول على السلطة
تتسم اللحظة السياسية الراهنة بانقسام واضح داخل الطبقة السياسية بشأن آليات الانتقال السياسي، وقراءة التوجهات المستقبلية للدولة. هذا النوع من الاختلاف، وفقًا لـ لينز، يمثل مؤشرًا على اهتزاز قواعد الحكم، حين يصبح الإجماع حولها محل خلاف.
- توقف قنوات الوساطة وغياب الحوار الوطني
لم تعد قنوات الوساطة التي أدت تاريخيًا دور “مخفّف التوتر” تعمل بالشكل المطلوب، فيما يشهد المشهد السياسي غيابًا شبه كامل للحوار بين النظام والمعارضة. ويُصنف شميتر وأودونيل هذا الوضع ضمن حالات “الانسداد السياسي”، حيث تغيب آليات إدارة التوازن بين الفاعلين.
- بوادر استقطاب عمودي على أسس عرقية وقبلية وجهوية
تزداد حدة الخطاب الهوياتي، وتتسع الهوة بين المكونات الاجتماعية، بما يعيد للأذهان تجارب أحداث 1987 و1989 و1990 و1991. هذا النمط من الاستقطاب يمثل خطرًا بنيويًا لأنه يتجاوز الخلاف السياسي إلى تهديد الوحدة الاجتماعية ذاتها.
- تراجع الحريات العامة بفعل “قانون الرموز”
أدى اعتماد ما يُسمّى بـ “قانون الرموز” إلى تضييق المجال العام، وتقليص حرية التعبير، وهو ما يؤثر في جودة النقاش السياسي وفي القدرة على إنتاج رأي عام فاعل، ويعزز ما يصفه بورديو بانكماش “الرأسمال الرمزي” للمجال العمومي.
- ظروف اقتصادية ضاغطة
تشهد البلاد مستويات مرتفعة من غلاء المعيشة، وضعف القدرة الشرائية، وتراجع قيمة العملة، وتزايد البطالة، وهجرة الشباب والكفاءات، إضافة إلى حالات نزوح داخلي. هذه الأوضاع – بحسب تشارلز تيلي – يمكن أن تتحول إلى مطالب سياسية متصاعدة حين تفشل الدولة في معالجتها.
- انفلات في المجال الاتصالي
تزايد الشائعات، وانتشار الخطابات الجهوية والطائفية، وظهور زعامات شعبية خارج المؤسسات الرسمية، كلها مؤشرات على فقدان الدولة السيطرة على المجال الاتصالي، وتراجع الثقة في الإعلام الرسمي، وفق تحليل نيكلاس لومان للشرعية الاتصالية.
ثانيًا: موقع موريتانيا على خارطة الأزمات السياسية
تشير القراءة التحليلية إلى أن موريتانيا لا تعيش أزمة سياسية مكتملة الأركان، لكنها تقف عند ما يمكن تسميته مرحلة ما قبل الأزمة أو الأزمة منخفضة الحدّة. فالمؤسسات قائمة، والأمن مستتب نسبيًا، والدولة ما تزال تمارس احتكار العنف المشروع، لكن البيئة المحيطة تشهد تراكماً لتوترات قد تتحول إلى أزمة بنيوية إذا لم تُعالج.
إن ما يميز الوضع الموريتاني اليوم هو التقاطع بين مؤشرات متعددة: تراجع الثقة، وتوقف الحوار، والاستقطاب، وتدهور اقتصادي نسبي، وتوتر اجتماعي، وهي عناصر كفيلة – إذا اجتمعت – بدفع أي نظام سياسي نحو أزمة حقيقية.
ثالثًا: الحاجة إلى حوار وطني شامل
استنادًا إلى التجارب التاريخية، خصوصًا ما يتعلق بملف ما يُسمّى بـ “الإرث الإنساني” الذي شهد تسويات جزئية لم تُقنع جميع الأطراف، تبدو الحاجة ملحّة اليوم إلى مقاربة حوارية جديدة تعتمد العناصر التالية:
- حوار وطني جامع
يشمل النظام والمعارضة والمجتمع المدني والفاعلين الاجتماعيين، ويستند إلى مبادئ الاعتراف المتبادل، والضمانات المؤسسية، واحترام التعددية السياسية.
- معالجة صريحة للملفات العالقة
خصوصًا ملف الإرث الإنساني، من خلال:
كشف الحقائق،
ضمان حق المعرفة لعائلات الضحايا،
بناء سردية وطنية جامعة تنهي الاستثمار السياسي للملف.
- إصلاحات اقتصادية واجتماعية
تركز على تخفيف غلاء المعيشة، وتحسين القدرة الشرائية، وخلق فرص للشباب، وتحصين الطبقة المتوسطة باعتبارها الركيزة الاجتماعية للاستقرار.
- مراجعة التشريعات المقيّدة للحريات
بما يُعيد التوازن بين حماية الدولة وصون حرية التعبير، ويفتح المجال العمومي أمام مشاركة سياسية حقيقية.
- بناء ثقة جديدة بين الدولة والمجتمع
عبر إعادة تأهيل الإعلام العمومي، ومواجهة الشائعات، وإطلاق مبادرات لتعزيز التماسك الوطني، والحد من الخطابات الجهوية والعرقية.
خاتمة
تواجه موريتانيا اليوم لحظة سياسية دقيقة تتطلب قدرًا عاليًا من الحكمة السياسية والقدرة على بناء التوافقات. فالمؤشرات القائمة لا ترقى إلى مستوى الأزمة الكاملة، لكنها تشكل بيئة خصبة لولوج أزمة إذا لم تتم معالجتها عبر حوار جاد وإصلاحات مؤسسية واقتصادية واضحة. إن التراث السياسي الحديث، كما كشفت أحداث أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، يؤكد أن الملفات المؤجلة تتحول بمرور الوقت إلى عوائق ثقيلة تعطل بناء الدولة.
إن الطريق نحو استعادة التوازن يمرّ عبر حوار وطني حقيقي يعيد الثقة بين السلطة والمجتمع، ويعالج جذور التوتر، ويؤسس لتوافق سياسي جديد يحمي البلاد من الانزلاق، ويفتح آفاقًا جديدة لبناء دولة قوية وعادلة ومستقرة.
حمادي سيدي محمد آباتي









