الأخبار العالمية

من النكبة إلى الحصار: محاولات تفريغ غزة عبر التاريخ

قبل قيام الدولة الإسرائيلية، كان القادة الصهاينة يعتبرون أن المشكلة الديموغرافية تشكل تحديًا خطيرًا. بن غوريون قال عام 1947 إن الدولة اليهودية لا يمكن أن تستقر إذا لم تتجاوز نسبة اليهود فيها 60%. أما تيودور هرتزل فكان قد تحدث في مذكراته عن فكرة طرد السكان الأصليين “دون أن يلاحظ أحد”، مما يوضح أن مسألة تقليل عدد العرب كانت جزءًا من التفكير الاستراتيجي منذ البداية.

المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه يرى أن المشروع الصهيوني منذ بدايته كان يهدف إلى بناء كيان غربي داخل محيط عربي، وأن هاجس “حق العودة” جعل القيادة الإسرائيلية تخشى من أي زيادة في أعداد العرب داخل حدود الدولة. ولهذا السبب، لم تتوقف محاولات معالجة ما سُمّي “المأزق الديموغرافي” سواء عبر الحروب أو السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

مع إعلان قيام دولة الاحتلال في مايو 1948 بدأت عمليات تهجير واسعة شملت نحو 750 ألف فلسطيني. كثير منهم لجأ إلى قطاع غزة، الذي كان عدد سكانه قبل النكبة لا يتجاوز 80 ألفًا، لكنه استقبل ما بين 200 و250 ألف لاجئ، استقر أغلبهم في المخيمات التي أقامتها وكالة الأونروا.

في الخمسينيات، ظهرت مشاريع متعددة لتوطين اللاجئين في سيناء أو نقلهم إلى مناطق أخرى، لكن الموقف الشعبي الفلسطيني والرفض المصري والدولي حال دون تنفيذ هذه المشاريع. وخلال العدوان الثلاثي عام 1956، احتلت إسرائيل غزة لفترة قصيرة ارتكبت خلالها مجازر، وسعت من خلالها إلى تهجير السكان أو تقليص أعدادهم.

بعد عام 1967، عندما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين، طرحت أفكار جديدة تهدف إلى تشجيع “الهجرة الطوعية” من غزة عبر خلق ظروف معيشية صعبة. استخدمت سلطات الاحتلال أساليب متعددة مثل التضييق الاقتصادي ومنع تصاريح العمل وفرض القيود على التنقل، في محاولة لدفع السكان إلى مغادرة القطاع.

في العقود اللاحقة، استمرت هذه السياسة بأشكال مختلفة. فقد جرى هدم منازل، وتقسيم المخيمات، وفرض حصار اقتصادي خانق، ما جعل الحياة اليومية شبه مستحيلة وأدى إلى زيادة معدلات البطالة والفقر. ومع أن الاحتلال انسحب من داخل القطاع عام 2005، إلا أن الحصار استمر بصورة أشد بعد عام 2007، ما جعل غزة أشبه بسجن كبير.

في السنوات الأخيرة، برزت مشاريع جديدة تتحدث عن “حلول إنسانية” مثل توسيع القطاع داخل سيناء أو نقل جزء من سكانه إلى مناطق مجاورة، لكنها واجهت رفضًا قاطعًا من مصر ومن المجتمع الدولي، الذي رأى فيها محاولة لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.

كما ظهرت بعض المبادرات التي تتحدث عن تقديم تعويضات مالية لمن يختار مغادرة غزة، في محاولة لإظهار الأمر وكأنه “خيار شخصي”، بينما الهدف الحقيقي هو استمرار سياسة التهجير غير المباشر من خلال الحصار والضغط الاقتصادي والنفسي.

بعد تصاعد المواجهات في أكتوبر 2023، عادت مسألة التهجير إلى الواجهة بقوة. ظهرت وثائق وتسريبات تتحدث عن خطط لنقل سكان غزة إلى سيناء أو دول أخرى، مما أثار قلقًا واسعًا من أن الحرب تستخدم كغطاء لإعادة تنفيذ مخطط التهجير الجماعي الذي بدأ منذ عام 1948.

باختصار، التاريخ يوضح أن هناك سلسلة طويلة من السياسات التي سعت إلى تقليص الوجود الفلسطيني في غزة، سواء عبر القوة العسكرية أو عبر أدوات اقتصادية واجتماعية. والنتيجة واحدة: محاولة إفراغ غزة من سكانها الأصليين وتقويض حقهم في البقاء على أرضهم وحقهم في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها.

زر الذهاب إلى الأعلى