مدينة قرطاج وإسهاماتها في الحضارة العالمية

مقدمة
تُعد مدينة قرطاج إحدى أعظم الحواضر القديمة وأكثرها تأثيرًا في تاريخ البحر الأبيض المتوسط. تقع هذه المدينة التاريخية في شمال تونس الحالية، وقد لعبت دورًا محوريًا في المجالات الثقافية، السياسية، والاقتصادية عبر قرون طويلة.
في هذه المقالة، نُلقي الضوء على مراحل تأسيس قرطاج، تطور جامعتها، إسهاماتها في الحضارة العالمية، ومعالمها الاقتصادية والسياسية والثقافية، مع تحليل شامل لكل الجوانب التي ميزتها عن سائر مدن العصور القديمة.
أولاً: تأسيس مدينة قرطاج
تأسست مدينة قرطاج في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وتحديدًا حوالي سنة 814 ق.م، على يد الفينيقيين القادمين من مدينة صور في لبنان الحالي. وتُنسب عملية التأسيس إلى الملكة الفينيقية أليسار، المعروفة بديدو، التي اختارت الموقع الإستراتيجي لقرطاج على الساحل التونسي لتصبح مركزًا تجاريًا بحريًا ذا أهمية كبرى.
امتاز الموقع الجغرافي للمدينة بإطلالته على خليج تونس وقربه من مسارات التجارة البحرية، ما منحها القدرة على السيطرة على جزء كبير من حركة التجارة في البحر الأبيض المتوسط.
ثانيًا: جامعات قرطاج ودورها التعليمي
رغم أن مفهوم “الجامعة” كما نعرفه اليوم لم يكن موجودًا في العصور القديمة، إلا أن قرطاج كانت مركزًا للعلم والفكر، حيث عرفت بمدارسها الفلسفية والطبية والرياضية. كانت تستقطب النخبة من المثقفين من مختلف أنحاء العالم، خاصة في فترات ازدهارها تحت الحكم القرطاجي ثم الروماني.
وقد شهدت المدينة خلال الحقبة الرومانية إنشاء عدد من المؤسسات التعليمية العليا، أشهرها المدرسة الفلسفية التي درس فيها القديس أغسطينوس لاحقًا. وتُعد هذه المراكز بمثابة نواة للجامعات لاحقًا، حيث احتضنت مناهج متعددة تدمج بين العقل الفينيقي العملي والفكر الإغريقي النظري.
ثالثًا: قرطاج والثقافة
ساهمت قرطاج في إرساء ملامح ثقافة متوسطية متميزة. فقد كانت نقطة التقاء بين الحضارة الفينيقية والإفريقية والأوروبية، ما جعلها بوتقة انصهرت فيها تقاليد متعددة. وقد ازدهرت فيها الفنون التشكيلية، العمارة، الفلسفة، والأدب.
وخلّف الفن القرطاجي آثارًا خالدة، تجسدت في التماثيل والنقوش والخزف، كما عُرفت قرطاج بمسرحها الكبير الذي احتضن العروض الدرامية والخطابية، ما ساهم في ترسيخ ثقافة مدنية متمدنة.
رابعًا: الدور السياسي لقرطاج
تميزت قرطاج بنظام سياسي متطور ومرن، حيث جمعت بين الأشكال الأرستقراطية والديمقراطية. فقد كان الحكم يتوزع بين مجلس الشيوخ ومجلس الحكماء، إضافة إلى القضاة (السوفطيم)، الذين يتم انتخابهم. وأشاد أرسطو في كتاباته بهذا النظام، واعتبره من أفضل أشكال الحكم في عصره.
ولعبت قرطاج دورًا سياسيًا فاعلًا في البحر المتوسط، حيث خاضت حروبًا قوية، أبرزها الحروب البونية ضد روما، وبرز خلالها القائد الشهير حنبعل، الذي بقيت استراتيجياته الحربية تدرّس حتى العصر الحديث.
خامسًا: قرطاج والاقتصاد
كانت قرطاج قوة اقتصادية بحرية من الطراز الأول. سيطرت على طرق التجارة البحرية الممتدة من سواحل غرب إفريقيا إلى جنوب أوروبا. وشكلت الزراعة، خاصة زراعة الزيتون والكروم، أحد أعمدة اقتصادها، إضافة إلى الصناعات الحرفية كصناعة السفن والأقمشة والبخور والمعادن.
وقد طوّر القرطاجيون طرقًا متقدمة في الري واستغلال الأراضي، ووثّق ذلك الكاتب الروماني كاتو الأكبر في مؤلفه الشهير حول الزراعة، معتمدًا على الممارسات الزراعية القرطاجية.
سادسًا: المعالم الأثرية والتاريخية
لا تزال مدينة قرطاج تحتفظ بعدد من المعالم الأثرية التي تشهد على عظمتها. من أبرزها:
- الميناء العسكري والتجاري الذي يُعد تحفة هندسية.
- مسرح قرطاج الروماني الذي يستضيف اليوم مهرجانات دولية.
- الحمامات الأنتونية، وهي من أكبر الحمامات الرومانية القديمة في العالم.
- المعابد الفينيقية، التي تعكس تقاليد دينية وروحية ضاربة في القدم.
خاتمة
إنّ مدينة قرطاج ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي شهادة على حضارة عظيمة ساهمت في تشكيل التاريخ البشري. لقد كانت منارة علم، مركزًا للتجارة، وقطبًا ثقافيًا وسياسيًا بارزًا. واليوم، تُعد قرطاج من أهم المعالم التاريخية في تونس والعالم، ومصدر فخر للهوية التونسية والعربية المتوسّطية.