تحقيقات

محكمة الحسابات تفتح الطريق… ولكن من يغلِقه؟

أقال مجلس الوزراء اليوم عدداً من الموظفين السامين، في خطوة جاءت مباشرةً إثر تقرير محكمة الحسابات الذي سلمه رئيس المحكمة إلى رئاسة الجمهورية وضمّ ملاحظات وانتقادات حادة حول تسيير عدد من المؤسسات والهيئات العامة.

هذه القرارات، التي صرح البعض بأنها تهدف إلى ترجمة توصيات التقرير إلى إجراءات فعليّة، لم تولّد طمأنينة تلقائية لدى الرأي العام فحسب، بل حفرت أيضاً سؤالاً سياسياً وأخلاقياً عميقاً: هل ستكون هذه الإقالات بداية استئصال حقيقي لشأفة الفساد أم مجرد تعديل وجوه مع بقاء أنماط الاستحواذ نفسها؟.

محكمة الحسابات فعلت دورها بتقديم تقرير شامل يبين اختلالات جوهرية في التسيير، والرئاسة أملت على الحكومة تطبيق التوصيات بحزم. لكن هناك فرقاً كبيراً بين الإحالة الرمزية للتقارير إلى القضاء أو الإقالات العرضية، وبين بناء آلية مستدامة للمساءلة تضمن استرداد الأموال العامة ومحاكمة المسؤولين عند ثبوت التورط.

الردّ المتوقع: دوائر المنظومة لا ترحل بسهولة

الخطير أن منظومة الفساد لا تعمل بوجوهٍ فقط، بل بشبكات نفوذ متداخلة: شيوخ قبائل نافذون، ضباط سابقون، وزراء سابقون، ونسق اجتماعي يمتد داخل الأسرة والقرابة. هؤلاء يعرفون أن الخطر الحقيقي لا يكمن في لحظة عزف عنهم المناصب، بل في فقدان مصادر النفوذ الاقتصادي والسياسي. لذلك سيستخدمون أدوات متعددة للنجاة: تدوير المفسدين داخل مؤسسات الدولة وبعد التقاعد تعيينهم رؤساء لمجالس إدارات في شركات عمومية وخاصة؛ أو الدفع بشخصيات ضعيفة التأهيل (أميين سياسياً/إدارياً) لتسلّم واجهات تُبقي على التحكم من وراء الكواليس.

غزواني بين الشهرة والأجر — خيار الحسم

على الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يختار: إما أن يكتفي بنقاطٍ تكتيكية تكسبه شهرةً لحظيةً وتضعه في خانة من “قام بالمحاسبة” دون أن يغير النظام، أو أن يخوض معركةً استراتيجيةً طويلة تُقطع فيها أذرع النفوذ وتُنشَأ بدائل مؤسسية حيادية وكفوءة قادرة على إدارة الموارد بشفافية.

إن التردد سيُرجع أسوأ النتائج: انتقامٌ ممن تُطالهم الشبهات عبر أدوات إدارية وقانونية جديدة، أو تدويرٌ لصيغ الفساد بطريقةٍ أكثر خبثاً تجعل من الإصلاح مسرحيةً لا أكثر. لذا فإن قرار الإقالات يجب أن يتبعه: إجراءات قضائية سريعة وعلنية ضد المتورطين، استرجاع الأموال، وإصلاح تشريعي يُغلق ثغرات التعيين والتناوب التي تسمح باستمرار النفوذ بعد التقاعد.

من نُعين لإدارة مرحلة الانتقال؟

ليس الحل أن نركّب منظومة جديدة بوجوه قديمة؛ بل أن نُوكِل مهام التصحيح إلى أشخاص ذوي سمعة نظيفة وكفاءة مثبتة، وأن نُكلفهم بمهمّة مزدوجة: إدارة مؤسسات الدولة الآن، وتدريب جيلٍ جديد من الكفاءات المستقلة. أسماء وطنية مشهود لها بالنزاهة والامتياز المهني يمكن أن تُقدّم نموذجاً لإعادة الثقة، كما أن إشراك المجتمع المدني والبرلمان والهيئات الرقابية سيمنع العودة إلى الغرف المغلقة.

خاتمة: بين التكفير والخلود

إذا نجحت هذه الخطوة وقُطِعَت أوصال منظومة الفساد، فسيخلّد التاريخ اسم من قاد عملية إصلاح حقيقية. أما إذا غاب الحسم، فستتحوّل الإقالات إلى بروفةٍ لانتكاسةٍ أكبر، وسنشهد تدويراً أكثر دهاءً للمفسدين. على الرئيس أن يعلم أن هذا ليس مجرد رهان على شعبيته أو على “الشهرة والأجر” بل امتحان حاسم لمستقبل الدولة نفسها — إمّا أن تُطوى صفحة الفساد وإما أن تُعاد كتابتها بحبرٍ أكثر سواداً.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى