ثقافة

مآلات بلدٍ احتقر فيه العسكرُ السياسيين

في البلدان التي حكمها العسكر، لا يكون الانقلاب مجرد لحظة خاطفة في التاريخ، بل بوابة لمرحلة طويلة من التآكل المؤسساتي والتشوه السياسي. فالخطر لا يكمن فقط في وصول الجندي إلى سدة الحكم، بل في ما يترتب عليه من إفراغ للحياة السياسية من مضمونها، وتحويل السياسي إلى مجرد تابع يُستدعى عند الحاجة، ويُحتقر في الغرف المغلقة.

تحت ستار “الاستقرار”، ظهر ما يمكن تسميته بـ”الطبقة الحرباوية”، وهي فئة سياسية صعدت لا بالكفاءة ولا بالشرعية الشعبية، بل بقدرتها على التلون والانصياع لأوامر العسكر. هؤلاء هم من شكّلوا الواجهة المدنية لنظام عسكري، وعملوا على سد الأبواب أمام الكوادر الوطنية النزيهة، التي كانت قادرة على العبور بالبلد من شرعيات القبيلة والجهة، إلى شرعية المؤسسات والدستور والقانون.

تواطؤ على إجهاض الطبقة الوسطى

لقد قبلت هذه الطبقة السياسية المحتقرة من قبل العسكر، أن تلعب دور المبرر للنهب المنظم، مقابل حصتها من الغنيمة. وبهذا، ساهمت عن وعي أو غفلة في محو الطبقة الوسطى، وهي البيئة الحاضنة لأي مشروع ديمقراطي حقيقي. حين تتآكل هذه الطبقة، يُقضى على إمكانية التوازن المجتمعي، ويُفتح الباب أمام الانفجار أو الانهيار البطيء.

خذ مثالًا واضحًا: قطاع التعليم، الذي يضم ما يفوق عشرين ألف إطار، ومع عائلاتهم يشكلون قوة انتخابية مؤثرة. وإذا أضفنا الجنود وعائلاتهم، نتحدث عن قرابة نصف مليون شخص في بلد لا يتجاوز عدد ناخبيه المليون. ومع ذلك، فإن النظام عمد إلى وضع حواجز إدارية وقانونية وإعلامية تحول دون تبلور هذا الوعي الجمعي، وحرص على تشتيت هذه الفئات أو إغراقها في هموم يومية تُفقدها القدرة على التغيير.

منظومة تعيق الإصلاح

عبر آليات متشابكة من التعيينات الفوقية، وتوزيع الريع، وتدجين المؤسسات، تمّ تفريغ السياسة من مضمونها، وتحويل البرلمان والمجالس إلى كيانات بلا قرار. وتمّت محاصرة النقابات والمجتمع المدني، وفرض إعلام موجَّه لا يعكس تطلعات الناس بقدر ما يكرّس واقع الهيمنة.

إن أخطر ما في هذا النموذج من الحكم ليس الفشل الظاهري في التنمية، بل تحطيم الأمل في التغيير من الداخل. فحين يُقصى الوطنيون، وتُحتقر الكفاءات، ويُصعد المنافقون، يصبح الانسداد حتميًا.

إعادة الاعتبار للعمل السياسي

لا يمكن بناء دولة حديثة بواجهة مدنية وعمق عسكري. ولا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي دون إعادة الاعتبار للفعل السياسي النزيه، وتحرير المجال العام من قبضة الثكنة. المطلوب هو فتح الأبواب أمام الكوادر الوطنية الحقيقية، واستعادة مكانة الطبقة الوسطى، وتوفير شروط المنافسة الشريفة في فضاء عام تُحترم فيه الإرادة الشعبية.

أما مواصلة اللعبة القديمة، بتبديل الوجوه وتدوير الفشل، فلن يفضي إلا إلى مزيد من الانحدار.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى