لماذا نتثاءب؟ ما الذي يقوله العلم عن واحدة من أكثر السلوكيات غموضا لدى الإنسان

تمارس جميع الفقاريات التثاؤب، أو على الأقل سلوكا يشبهه، ورغم شيوعه بين البشر والحيوانات على حد سواء، ظل الغرض الحقيقي من التثاؤب لغزا علميا لسنوات طويلة، ولا يزال موضع نقاش بين الباحثين حتى اليوم. فما السبب الذي يدفعنا إلى التثاؤب؟ وهل له فائدة حقيقية للجسم والدماغ؟
يقول أندرو غالوب، أستاذ علم الأحياء السلوكي في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، في حديث لصحيفة الغارديان البريطانية:
“عندما أسأل الناس: لماذا نعتقد أننا نتثاءب؟ غالبا ما تكون الإجابة أن الأمر مرتبط بالتنفس وزيادة الأكسجين في الدم”.
ويبدو هذا التفسير منطقيا للوهلة الأولى، فالتثاؤب يتضمن استنشاقا عميقا للهواء، غير أن ما لا يعرفه كثيرون هو أن هذه الفرضية خضعت لاختبارات علمية دقيقة، وتبين في النهاية أنها غير صحيحة.
هل التثاؤب مرتبط بالأكسجين؟
لاختبار فكرة أن التثاؤب يهدف إلى زيادة الأكسجين أو طرد فائض ثاني أكسيد الكربون، أُجريت في ثمانينيات القرن الماضي دراسات تم فيها تغيير نسب هذين الغازين في الهواء الذي يستنشقه المتطوعون.
وأظهرت النتائج أن هذه التغييرات، رغم تأثيرها الواضح على عمليات التنفس الأخرى، لم تؤثر على وتيرة التثاؤب أو انتظامه. كما لم تسجل أي فروق منهجية في سلوك التثاؤب لدى الأشخاص الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي أو اختلال وظائف الرئة، وهو ما كان متوقعا لو كان التثاؤب مرتبطا مباشرة بالتنفس.
ماذا يحدث داخل الجمجمة؟
أثار هذا التناقض فضول غالوب، فبدأ بدراسة نمط الحركة المصاحب للتثاؤب، والذي يتضمن فتحا واسعا للفك مع شهيق عميق، يليه إغلاق سريع وزفير أقصر. ولاحظ أن هذا النمط قد يكون له تأثير موضعي مهم داخل الجمجمة.
ويمكن النظر إلى فتح الفك أثناء التثاؤب بوصفه نوعا من التمدد الموضعي، يشبه تمدد العضلات في مناطق أخرى من الجسم. وتشير دراسات عدة إلى أن التثاؤب يؤدي إلى زيادة تدفق الدم الشرياني إلى الجمجمة، ثم تسريع عودة الدم الوريدي من الرأس إلى القلب.
تنظيم حرارة الدماغ
انطلاقا من هذه الملاحظات، طور غالوب وزملاؤه نظرية مفادها أن التثاؤب يساعد على تنظيم حرارة الدماغ وما يحيط به.
وتتحدد درجة حرارة الدماغ بشكل رئيسي بثلاثة عوامل:
- معدل تدفق الدم الشرياني إلى الدماغ
- درجة حرارة هذا الدم
- كمية الحرارة الناتجة عن النشاط الأيضي العصبي
ويمكن للتثاؤب، نظريا، التأثير في العاملين الأولين. فخلال التثاؤب، يدخل هواء بارد نسبيا عبر الفم والأنف، ويمر فوق الأسطح الرطبة للسان والممرات الأنفية، مما قد يساعد على تبريد الدم المتجه إلى الدماغ.
وتدعم هذه الفكرة ملاحظات تشير إلى أن معدل التثاؤب يزداد في الأجواء الحارة، وينخفض عندما يكون الطقس أكثر برودة، وهو ما يعزز فرضية ارتباط التثاؤب بتنظيم الحرارة.
نظرية أخرى: تبديل حالات الدماغ
مع ذلك، ليست نظرية تنظيم حرارة الدماغ الوحيدة المطروحة. فهناك أدلة تدعم ما يُعرف بـ”نظرية تغير الإثارة”، والتي تفترض أن التثاؤب يساعد الدماغ على الانتقال بين حالات مختلفة، مثل الانتقال من النوم إلى اليقظة، أو من الملل إلى الانتباه.
ويقول مؤرخ الطب الدكتور أوليفييه فالوسينسكي، الذي نشر عدة أبحاث حول التثاؤب:
“من المحتمل أن التثاؤب يساعد الدماغ على التبديل بين شبكة الوضع الافتراضي، المرتبطة بأحلام اليقظة واسترجاع الذكريات، وشبكة الانتباه المسؤولة عن تهيئة الجسم للنشاط”.
ويضيف أن إحدى الآليات المحتملة لذلك هي تحفيز دوران السائل النخاعي، وهو السائل الذي يحيط بالدماغ والنخاع الشوكي ويؤدي دورا حيويا في حمايتهما وتنظيم وظائفهما.
لغز لم يُحسم بعد
ورغم التقدم العلمي، لا يزال التثاؤب سلوكا معقدا لم يُفسَّر بالكامل. إلا أن ما يبدو مؤكدا هو أن التثاؤب ليس مجرد علامة على التعب أو الملل، بل قد يكون آلية فسيولوجية ذكية تساعد الدماغ على تنظيم حرارته أو إعادة ضبط حالته الوظيفية استعدادا للنشاط.









