لماذا تنحّى كريم خان؟ بقلم : د. محمود الحنفي / أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان (بتصرف)

في لحظة مفصلية من عمر العدالة الجنائية الدولية، يبرز اسم كريم خان كأكثر من مجرد مدّعٍ عام، بل كرمز لمرحلة يتصادم فيها القانون مع السياسة، والمبادئ مع المصالح. منذ تولّيه منصبه في يونيو/حزيران 2021، قاد خان مواجهات قضائية ضد زعماء دوليين نافذين مثل بوتين ونتنياهو، مما جعل المحكمة الجنائية الدولية ساحة صراع سياسي عالمي. فهل كان يدفع ثمن هذه المواجهات؟ وهل تنحيه المؤقت جاء بمحض إرادته أم نتيجة ضغوط سياسية هائلة.
من هو كريم خان؟
كريم خان، المولود في إدنبره – أسكتلندا عام 1970، يُعد من أبرز الشخصيات القانونية في ميدان العدالة الجنائية الدولية. بخبرة تفوق الثلاثين عامًا في الادعاء والدفاع أمام محاكم دولية مختلفة كالمحكمة الخاصة بلبنان وسيراليون وآليات الأمم المتحدة لرواندا ويوغسلافيا، أصبح اسمه مرادفًا للكفاءة القانونية.
في فبراير/شباط 2021، انتُخب مدعيًا عامًا للمحكمة الجنائية الدولية، خلفًا لفاتو بنسودا، وتسلّم مهامه في يونيو/حزيران من العام نفسه، في ظل تحديات تمويلية وهيكلية، وملاحظات تتعلق بازدواجية المعايير، مما جعل انتخابه محاولة لإعادة الاعتبار للمحكمة وتعزيز مصداقيتها.
ملابسات تنحيه المؤقت
في 16 مايو/أيار 2025، أعلنت المحكمة أن كريم خان قرر التنحي مؤقتًا على خلفية تحقيق خارجي في مزاعم سوء سلوك جنسي، تعود لشكوى قُدّمت في أكتوبر/تشرين الأول 2024، تتهمه بسلوك غير لائق تجاه موظفة ومحاولة الضغط لإقامة علاقة معها. رغم نفيه الشديد، أعلن تنحيه مؤقتًا لحماية مصداقية المحكمة وسير التحقيق.
طلب خان في البداية فتح تحقيق داخلي، لكن تصاعد الضغوط من منظمات حقوقية ودول أعضاء دفع المحكمة لإحالة الملف إلى مكتب الرقابة الداخلية في الأمم المتحدة (OIOS) لضمان الحياد. وفي مطلع مايو/أيار 2025، خضع خان للاستجواب ضمن المرحلة النهائية للتحقيق. ورغم غياب نص صريح في نظام روما الأساسي حول حالات كهذه، تم تفويض نائبيه بتولي مهامه مؤقتًا.
خلف الكواليس: ضغوط سياسية أم مساءلة داخلية؟
رغم أن التنحي بدا شكليًا لضمان حيادية التحقيق، فإن السياق السياسي المحيط به يُظهر أبعادًا أعمق. تحركات خان ضد بوتين ونتنياهو أثارت حفيظة قوى دولية كبرى، خصوصًا بعد إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه. الرد لم يتأخر؛ فقد فرضت إدارة ترامب عقوبات مباشرة على خان ومسؤولين في المحكمة، شملت تجميد أصولهم ومنعهم من دخول الولايات المتحدة.
كما مارست واشنطن ضغوطًا على حلفائها لخفض تمويل المحكمة، وشككت إسرائيل في حياديتها. وحتى بعض الدول الأوروبية عبّرت عن “قلق” من خطوات خان، محذّرة من عزل المحكمة دوليًا. هذه البيئة الخانقة تشير إلى أن تنحيه لم يكن فقط احترامًا لآليات التحقيق، بل ربما كان خطوة تكتيكية لامتصاص الضغط وإنقاذ المؤسسة من التصدّع.
قضايا فجّرت صراع الإرادات
جاء تنحي خان في وقت حرج، حيث تشرف المحكمة على ملفات كبرى:
- أوكرانيا: يتابع فريق خاص الجرائم منذ الغزو الروسي، بما في ذلك مذكرة التوقيف ضد بوتين.
- فلسطين: بلغ التصعيد ذروته حين طلب خان مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه بعد العدوان على غزة، ما أثار عاصفة من الضغوط والانسحابات، أبرزها من هنغاريا.
- السودان: سعى خان لإحياء ملف دارفور بمذكرات توقيف جديدة في 2025، ما قد يتأثر بغيابه.
- قضايا أخرى: كأفغانستان، الفلبين، ليبيا، وميانمار، ما تزال في المسار المؤسسي لكنها قد تتباطأ بسبب غيابه.
ورغم مواقفه الجريئة، تعرض خان لانتقادات من منظمات حقوقية بسبب تباطؤه في ملفات كفلسطين، مقارنة بسرعة استجابته لأوكرانيا، مما أثار تساؤلات عن توازن المعايير.
مستقبل المحكمة: اختبار للاستقلالية
تنحي خان يمثل لحظة اختبار حقيقية للمحكمة. فإما أن تخرج من الأزمة أكثر مصداقية، إن ثبتت براءته، أو تظهر هشاشتها أمام الضغط السياسي، إن ثبت العكس. نظام روما الأساسي ينص في المادة 42 (5) على أن نائبي المدعي العام يتوليان المهام مؤقتًا، ما يضمن استمرارية العمل، ولو ببطء نسبي.
في المدى القريب، تقع على القيادة المؤقتة مسؤولية الحفاظ على زخم القضايا، وعدم التراجع أمام الضغط. أما في المدى الأبعد، فقد تدفع هذه الأزمة المحكمة لمراجعة بنيتها الداخلية وتعزيز معايير الشفافية والاستقلال، لضمان ألا تُستخدم العدالة الدولية كأداة في لعبة الأمم.
في عالم تهيمن عليه المصالح، يبدو أن المحكمة الجنائية الدولية تواجه معركتها الأصعب: معركة إثبات أن العدالة لا تتجزأ، ولا تهاب الأقوياء.