قراءة دستورية في اعتراف الرئيس بفشل السياسات التنموية وضرورة إعادة تأسيس منظومة الحكم

يمثّل اعتراف رئيس الجمهورية بعدم نجاح نظامه في تحويل الموارد الوطنية إلى نهضة تنموية حقيقية لحظة سياسية فارقة، تُحتمّ على مؤسسات الدولة والمجتمع معاً التعامل معها بجدية ومسؤولية. فالإقرار الصريح بالفشل، حين يصدر عن رأس الدولة، لا ينبغي أن يُفهم بوصفه توصيفاً للوضع فحسب، بل باعتباره التزاماً سياسياً ودستورياً ببدء مسار إصلاحي جذري يضمن حماية المصلحة العامة، ويعيد الاعتبار لوظيفة الدولة كما نصّ عليها الدستور.
أولاً: الثروة الوطنية بين النص الدستوري والواقع العملي
الدستور يقرّر بوضوح أن الثروات الطبيعية ملك للشعب، وأن الدولة مؤتمنة على إدارتها واستغلالها بما يحقق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. وتأتي مقدمة الدستور لتؤكد التزام الدولة بحماية الثروات والموارد الوطنية وتوجيهها للصالح العام.
غير أن الواقع يكشف فجوة واسعة بين هذا المبدأ الدستوري وبين ممارسات التسيير، خصوصاً في:
قطاع المعادن (الذهب، الحديد، النحاس، الفوسفات)،
الثروة السمكية التي تُعد من أكبر مصادر الدخل المتجدد،
الغاز والموارد الحيوية،
الثروة الحيوانية ذات القيمة الاقتصادية العالية.
لقد أُبرمت عقود عديدة مع شركات أجنبية كبرى، مثل “تازيازت” و”MCM”، ومع شركاء في مجال الصيد كالاتحاد الأوروبي والصين وتركيا. غير أن هذه العقود تحولت في كثير من الحالات إلى عقود إذعان، تفتقر إلى الشفافية والمراجعة، وتُحرم الدولة من نصيبها العادل، وتفتح الباب واسعاً أمام الفساد الإداري والرشوة والتلاعب بالرقابة، ولا سيما في قطاع الصيد البحري.
ثانياً: المسؤولية الدستورية للرئيس ومبدأ المحاسبة
وفقاً لأحكام الدستور، فإن رئيس الجمهورية هو الضامن لسير المؤسسات، والمكلف بالإشراف على السياسات العامة للدولة. وبالتالي فإن إقراره بفشل السياسات التنموية يُحمل النظام التنفيذي مسؤولية سياسية مباشرة، ويستلزم اتخاذ خطوة دستورية واضحة تتمثل في:
إقالة الحكومة القائمة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة.
فالدستور يُجيز للرئيس إعادة تشكيل الحكومة كلياً، متى اقتضت المصلحة العليا ذلك، خصوصاً إذا ثبت عجز الفريق التنفيذي عن إدارة القطاعات الحيوية، أو إذا تعطلت المرافق العمومية، أو إذا باتت السياسات المنفذة لا تحقق الأهداف المعلنة.
ثالثاً: نحو إعادة توجيه الحكم من المحاصصة إلى دولة المؤسسات
إنّ استمرار الاعتماد على المحاصصة القبلية وتدوير المناصب بين شبكات النفوذ قد أفرغ الدولة من مضمونها، وخلق إدارة لا تقوم على الكفاءة، بل على الولاءات. ولهذا فإن المصلحة الدستورية العليا تقتضي:
إنهاء العمل بمنطق “أطر القبائل”،
تبني معايير شفافة للكفاءة والتجربة،
وربط التعيينات بالأداء لا بالانتماء.
وإن كان لا بدّ من مراعاة التوازن الاجتماعي، فيجب أن يكون ذلك من خلال عدالة توزيع ثمار التنمية الناتجة عن إصلاح العقود والصفقات، لا من خلال توزيع المناصب وشرعنة الزبونية.
رابعاً: الرسالة الموجهة للرئيس في ما تبقى من مأموريته
لقد عبّر الرئيس خلال زياراته الميدانية عن استيائه من ممارسات إدارية ومالية مضرة، وهو تصريح يُنتظر أن تتحول مضامينه إلى إجراءات عملية. وإذا كان الرئيس يعيش بالفعل سنواته الأخيرة في السلطة، فإن مقتضيات الشرعية السياسية والدستورية تحتم عليه:
تحكيم العقل في إدارة ما تبقى من العهدة،
وتحكيم الضمير الديني الذي يجعل المال العام أمانة،
وتثبيت قواعد دولة العدل والمساواة،
وإعادة تأسيس المنظومة الإدارية على الشفافية وسيادة القانون.
والقرآن الكريم يذكّر بأن الأموال والأولاد قد يكونون فتنة، ومعناه—بمنطق الدولة—أن التأثيرات الشخصية والدوائر الضيقة أخطر على الحكم من الخصوم السياسيين.
خامساً: خاتمة – من الاعتراف إلى الإصلاح
الاعتراف بالفشل خطوة مسؤولة وشجاعة، لكنها لا تكتمل إلا إذا تلاها:
تفكيك شبكات الفساد،
مراجعة العقود والصفقات،
إعادة هيكلة الحكومة والإدارة،
وبناء مشروع تنموي يقوم على الحكامة الرشيدة.
إن إعادة الاعتبار للدستور، وتفعيل الرقابة، وإرساء دولة المؤسسات، هو وحده الطريق لتحويل ثروات البلد إلى نهضة يشعر بها المواطن، ويستعيد من خلالها ثقته في الدولة ومستقبلها.
حمادي سيدي محمد آباتي








