ثقافة

طلاء الماضي.. قراءة نقدية في توظيف الذاكرة لخداع الحاضر

طلاء الماضي.. قراءة نقدية في توظيف الذاكرة لخداع الحاضر

مقال تحليلي ثقافي

لا يكاد يخلو مجتمع من ظاهرة اللجوء إلى الماضي، استحضارًا أو استشهادًا، غير أن الفرق الجوهري بين الأمم الحية والراكدة يكمن في طبيعة هذا الاستحضار: فحين يكون الماضي موردًا للتفكير والتقويم، يصبح ركيزة للنهوض، أما حين يُستعمل كوسيلة للتجميل أو التبرير، فإنه يتحول إلى طلاء زائف يغطي الشروخ دون أن يعالجها.
وفي مجتمعاتنا العربية، تتخذ هذه الظاهرة طابعًا خاصًا يتقاطع فيه الاجتماعي بالديني والنَسَبي، فتتحول القيم الموروثة إلى رأسمال رمزي يوظَّف في السوق الاجتماعي والسياسي بدل أن يكون منبعًا للأخلاق والعمل.

إشكالية المقال

هل يمكن للماضي أن يُسهم في تنوير الحاضر؟ أم أن الإفراط في استحضاره يتحول إلى عائقٍ حضاري؟
هذه الإشكالية تفتح النقاش حول علاقة المجتمع بذاكرته، بين من يرى فيها أداة وعي نقدي، ومن يوظفها كآلية دفاع نفسي للهروب من مسؤولية الحاضر.

أولًا: الذاكرة الجماعية بين التنوير والتزييف

الذاكرة ليست مجرد خزانٍ للذكريات، بل هي، كما يصفها “موريس هالبواكس”، بناء اجتماعي يحدده الحاضر أكثر مما تحدده الوقائع الماضية. ولهذا، فإن الحفر في التاريخ لا يكون بريئًا دائمًا، بل قد يكون أداة لإعادة إنتاج الهيمنة، أو لتزييف الوعي الجمعي عبر تلميع الأسلاف وتقديس الأصول.
فبدل أن يُسهم التاريخ في إنتاج وعي نقدي، يتحول إلى وسيلة لإدامة الغفلة، إذ يخلط بعض الأفراد بين الانتماء القيمي والاستظلال بالأنساب، فيرون في صلاح السلف ضمانًا لنجاتهم الشخصية، وكأن الفضيلة تورَّث كما تُورَّث الأملاك.

ثانيًا: من الحفر في التاريخ إلى تبرير العجز

إن من ينفق جهده في التنقيب عن أمجاد أجداده ليغطي بها ضعف الحاضر، يشبه من يطلِي جدران بيتٍ آيلٍ للسقوط بدل ترميم أساسه.
فالاشتغال على الماضي بغير منهج نقدي، ودون غاية معرفية أو إصلاحية، لا يزيد صاحبه إلا بُعدًا عن الواقع. والأدهى أن هذا السلوك، حين يصبح ظاهرة اجتماعية، يُنتج ما يسميه عالم الاجتماع “بيير بورديو” رأسمالًا رمزيًا زائفًا، يتيح للبعض الاستفادة من مكانة موروثة دون استحقاق فعلي.
بهذا المعنى، يصبح التاريخ عند هؤلاء وسيلة للاستهلاك الاجتماعي لا أداة للمعرفة.

ثالثًا: العولمة وانكشاف الوعي الزائف

في عصر العولمة وتعدد مصادر المعرفة، لم يعد من الممكن الاستمرار في الاحتماء بسطوة الأسماء أو أنساب الآباء. فكل سيرة تُعرض الآن في فضاء مفتوح يتيح المقارنة والنقد والمساءلة.
ومن ثم فإن من يتستر وراء أمجادٍ قديمة، إنما يُعرِّي نفسه أمام جيلٍ يتعامل مع المعرفة كمقياسٍ للقيمة لا مع النسب كوسيلةٍ للهيمنة.
هكذا تُسقط الحداثة الأقنعة، وتعيد ترتيب الهرمية الاجتماعية وفق معايير الكفاءة والإبداع لا حسب السلالة والانتساب.

رابعًا: نحو وعيٍ جديد بالتاريخ

ليس المطلوب هدم الذاكرة، بل إعادة تأويلها. فالتاريخ لا يُستدعى لتمجيد الماضي، بل لفهم آليات السقوط والنهوض.
وحده الوعي النقدي القادر على تحويل الموروث من عبءٍ على الحاضر إلى طاقةٍ معرفية تسهم في بناء المستقبل.
إن استحضار الماضي بشكلٍ تنويري يعني مساءلته لا تكراره، واستخلاص العبرة منه لا اتخاذه حجةً للكسل والتقاعس.

خاتمة: من الذاكرة إلى الفعل

طلاء الماضي لا يضيء الحاضر، بل يطمسه حين يُستعمل للتغطية على العجز.
وإذا كان للماضي أن يخدم الحاضر، فذلك لا يكون إلا حين يُستعاد نقديًا بوصفه تجربة إنسانية قابلة للمراجعة، لا كقداسة مغلقة على الزمن.
فالتاريخ لا يُكافئ من يختبئ وراءه، بل يُنصف من يقرأه بعين الباحث لا بعين الواعظ، ويحول العبرة إلى مشروع حياة لا إلى سردية تباهي.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى