ثقافة

سوء الحكامة: التجليات، الأضرار، والعلاجات

تمهيد:

تُعد الحكامة الجيدة أساس بناء الدول الحديثة وضمان استقرارها ونمائها، وهي تقوم على الشفافية، والكفاءة، والمساءلة، والعدالة في تدبير الشأن العام. لكن حين تغيب هذه القيم، تحل محلها ظواهر خطيرة تُصنف ضمن “سوء الحكامة”، وهو ما عانت منه وتُعاني منه كثير من الدول، ومنها بلدنا، الذي عرف مسارًا متعثّرًا بين الاستبداد العسكري والتجريب الديمقراطي الهش، وما نتج عن ذلك من اختلالات عميقة في التسيير الإداري والمالي.

أولًا: تجليات سوء الحكامة

  1. التحكم القبلي في الدولة
    بعد التراجع عن خطاب “النعمة” الذي أعلن فيه الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع رفضه للقبلية، اضطر النظام إلى مسايرة الواقع الاجتماعي عبر استقطاب زعماء القبائل وشراء ولاءاتهم. فتم إشراكهم في دواليب السلطة، ليس بناءً على الكفاءة، وإنما بقدرتهم على ضمان الولاء القبلي.
  2. الإدارة كامتداد للبنى التقليدية
    أصبح التسيير الإداري في قبضة أطر قبليين لا يحمل بعضهم أي تكوين علمي أو إداري حقيقي، وغالبًا ما وصلوا إلى مناصبهم بواسطة تزوير الشهادات أو عن طريق “الوساطة” لا التنافس النزيه.
  3. الزبونية والمحسوبية
    تفشت المحسوبية واحتكار الفرص من قبل النخب العسكرية والسياسية، حيث أصبح الوصول إلى الوظائف الكبرى محصورًا على أبناء الوزراء والضباط، بينما حُرم عامة الشباب من فرص عادلة بسبب قيود الاكتتاب التي فرضها البنك الدولي، وتم الالتفاف عليها بالعقود المفتوحة والمجالس الوزارية.
  4. الصفقات العمومية كأداة إثراء سريع
    أصبح منح الصفقات العمومية وسيلة لتوزيع الريع، حيث تُمنح لشخصيات لا تملك المؤهلات لتنفيذها، فيقومون ببيعها لشركات أخرى مقابل عمولات، مما يحرم الدولة من الجودة ويضاعف كلفة الإنجاز.

ثانيًا: أضرار سوء الحكامة

  1. ضياع الكفاءات وتكريس الرداءة
    تم تهميش الكفاءات الحقيقية لصالح الولاءات، ما أدى إلى هجرة الأدمغة، وفقدان الثقة في الدولة.
  2. الفساد المالي والإداري
    أصبحت المؤسسات تعج بالفساد: من التوظيف إلى التسيير إلى الصفقات. وتم هدر الموارد العمومية في مشاريع غير مجدية.
  3. احتقان اجتماعي وفقدان الثقة
    رسّخ التفاوت الاجتماعي والجهوي، مما عمّق الإحساس بالغبن والإقصاء، وأدى إلى انتشار خطابات الكراهية والتمييز.
  4. تعطيل التنمية وتعثر الدولة
    بفعل سوء التخطيط والتنفيذ، تراجعت البنى التحتية، وتدهورت الخدمات العمومية في التعليم والصحة والنقل، وأصبحت الدولة تُدار بمنطق “الترقيع” لا الاستراتيجية.

ثالثًا: العلاجات الممكنة

  1. إصلاح منظومة التعيين والتوظيف
    يجب اعتماد مبدأ الاستحقاق، عبر مباريات شفافة تخضع لرقابة مستقلة، مع إلغاء العقود المفتوحة التي تُستخدم كأداة لتمييع الاكتتاب.
  2. فصل الإدارة عن الولاءات القبلية والسياسية
    لا بد من تحييد الإدارة عن النفوذ القبلي، وجعلها مؤسسة مهنية تعتمد الكفاءة لا الولاء.
  3. محاربة الفساد بشكل مؤسسي
    إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد بصلاحيات فعلية، ونشر تقاريرها للرأي العام، مع تفعيل المساءلة القضائية للنافذين.
  4. تبني اللامركزية الحقيقية
    نقل السلطة والموارد إلى الجماعات المحلية مع إشراك المواطنين في اتخاذ القرار يساهم في الحد من الزبونية المركزية.
  5. إصلاح التعليم والرفع من كفاءة الأطر
    استثمار طويل المدى في تعليم نوعي وعالي الجودة سيخلق جيلاً جديدًا من الإداريين القادرين على قيادة التغيير.

خاتمة

إن تجربة بلدنا خلال العقود الأخيرة أظهرت أن سوء الحكامة ليس مجرد خلل إداري، بل هو خطر وجودي يقوض أسس الدولة الحديثة. والخروج من هذا النفق يمر عبر إرادة سياسية حقيقية تُؤمن بالشفافية والعدل والكفاءة، وتُراهن على المواطن لا على الوسيط القبلي أو السياسي.

الإطار / حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى