ثقافة

سراب دجلة.. رواية الاغتراب والبحث عن الذات بين ضفاف النيل وظلال دجلة

يبدو أن هاجس الغربة والاغتراب، سواء داخل الوطن أو خارجه، يشغل حيزًا واسعًا من اهتمامات الروائيين العرب. فقد عالجت العديد من الروايات الصادرة خلال السنوات الخمس الأخيرة إشكالية الغياب، لا فقط عن الأرض والوطن، بل عن الذات أيضًا. وفي هذا السياق، لا تخرج رواية “سراب دجلة” للكاتب المصري الشاب خالد عبد الجابر، والصادرة عن دار “العين” عام 2023، عن هذا المسار السردي القائم على البحث عن طوق نجاة في وطن بديل.

تستهل الرواية بإهداءات ذات طابع شخصي وعاطفي، موزعة على ثلاثة مستويات: لأفراد عائلة الكاتب، وللشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي وشخصيته الخيالية “الأسطى حراجي”، ثم لأولئك الذين غادروا أوطانهم بحثًا عن ذواتهم المفقودة على أرصفة المنافي. ويبدو أن هذا الزخم العرفاني لم يكن عشوائيًا؛ فكأن عبد الجابر يستعيد أصواتًا أثقلها الحنين، قالت له: “اكتبنا، فقد أرهقنا التعب.”

أما افتتاحية الرواية، فلم تقل جمالاً وقوة عن تلك الإهداءات، إذ يبدأ الكاتب من الصفحة الأولى باستخدام أدوات سردية متقنة، تضع القارئ أمام تجربة وجدانية فريدة. ففي الفصل الأول، وتحديدًا في جزئه الافتتاحي المعنون بـ”الغريب”، يوظف عبد الجابر تقنية “التكثيف السردي” في فصل لا يتجاوز ثلاث صفحات، ليطرح من خلاله معظم الثيمات التي ستتخلل الرواية لاحقًا: الاغتراب، الرحيل، الذاكرة، الحنين، والعائلة. يفعل ذلك بأسلوب بصري بانورامي أشبه بمشهد سينمائي، يمر خلاله القارئ من القرية إلى بغداد، من دفء البيت العائلي إلى وحدة الغرفة المستأجرة، ومن دفاتر الجد إلى الرسائل الأولى التي ستربط البطل صادق بوالده في مصر.

تقنيات السرد المتعددة

يتراوح السرد في “سراب دجلة” بين ثلاث تقنيات رئيسية: الراوي العليم، ضمير المتكلم الذي يستخدمه أغلب الشخصيات الرئيسية، وتبادل الرسائل بين صادق ووالده محمد. هذا التنقل السلس بين الأساليب السردية يمنح النص بعدًا حيًا وديناميكيًا. فالراوي العليم يكشف خبايا الشخصيات، بينما يتيح ضمير المتكلم لكل شخصية أن تبثّ قلقها ومآسيها بشكل مباشر، أما الرسائل فتمثل بديلاً موفقًا عن الحوارات، إذ أضفت حميمية خاصة على النص، وجعلت القارئ يشعر بأنه جزء من هذا البوح الداخلي العميق.

ولعل أبرز ما يميز العمل أيضًا هو توظيف البيئة وتأثيرها في تشكيل وعي الشخصيات وتحفيز قراراتها. فالقرية ونمط الحياة الزراعية كان لهما أثر واضح في تشكيل شخصية محمد، الذي خاض الحرب دفاعًا عن أرضه وكرامته، وصادق الذي اختار الغربة من أجل استعادة قطعة أرض انتزعها منهم عمه إبراهيم مستغلًا غياب محمد.

ثراء لغوي ونحوي

من الناحية اللغوية، تميزت الرواية بالتنقل بين الجمل الاسمية والفعلية، وهو ما منح النص تنوعًا إيقاعيًا وبُعدًا جماليًا، بعيدًا عن الرتابة. كما أن استخدام أسلوب النفي في بدايات عدد من الجمل أضفى على اللغة طابعًا حاسمًا وقويًا. يُضاف إلى ذلك التقديم النحوي في بعض التراكيب، كأن يتقدم الخبر على المبتدأ، مما أضفى تناغمًا صوتيًا وبلاغيًا لافتًا.

ورغم هذا التميز، كان من الممكن أن تزداد الرواية ثراءً باستخدام بعض المفردات أو الحوارات العامية، خصوصًا في ظل التباين الواضح في البيئات واللهجات التي تنقلت بينها الشخصيات، فصادق ابن الريف المصري الذي انتقل إلى بغداد، لا بد أن يعاني من صدمة لغوية ولهجية. طرح هذا الصراع كان سيمنح الرواية عمقًا إضافيًا في مستوى الواقعية.

تشظي الزمان وتشخيص المكان

المكان في “سراب دجلة” لم يكن خلفية جامدة للأحداث، بل كان كائنًا حيًا، ينمو ويتحول ويتدخل في مصائر الشخصيات. سواء أكان المكان داخليًا (كغرفة السكن في بغداد، بيت العائلة، المقهى، المكتبة، المصطبة)، أو خارجيًا (بغداد، الغيط، شارع المتنبي، قرية ونس النيل)، فقد شكّل بؤرة لتحولات الشخصيات وصراعاتها. فالأرض مثلًا، هي ما دفع محمد إلى الحرب، وهي ما دفع صادق إلى الاغتراب، لكنها كذلك السبب في نفيه الداخلي، حين تحوّل من فلاح يغرس الأرض إلى نادل يخدم غرباء.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل رمز “المصطبة” التي تحضر في الرواية ككيان حميمي وملحمي في آن. ليست مجرد حجر يجلس عليه العابرون، بل منصة للتعلُّم، وللحب، وللانكسار، ولمآسي الجد الذي علّق فوقها صورة عبد الناصر. إنها مرآة الذاكرة الجماعية، ومركز للنوستالجيا، ومسرحٌ لتحولات الزمن ومآلات الشخصيات. حتى أن محمد، حين شاخ، أعاد بناءها أمام بيته، جلس فيها يشرب الشاي، ويستقبل العابرين، وهناك مات، مختتمًا قصة رجل وهب الأرض حياته ومصيره.

شخصيات تبحث عن الخلاص

جميع شخصيات الرواية أساسية بطريقة أو بأخرى، حتى من لم يظهر منها بشكل مباشر، مثل الشحات رفيق محمد في الحرب. وأكثر الشخصيات تعقيدًا هي شخصية إبراهيم، الأخ الغريم، الذي يشعر القارئ حياله بالتردد: أهو ظالم أم مظلوم؟ فبينما حُرم من التعليم لصالح أخيه، وكان هو من تعب في الأرض، إلا أنه في النهاية خان وسلب حقوق أخيه وأختيه من الميراث.

“سراب دجلة” رواية أولى مبشرة لكاتب يمتلك أدواته بصدق وشفافية. رواية صادقة تنبئ عن موهبة حقيقية، وعن قادم غني بالتجارب والسرد.

زر الذهاب إلى الأعلى