مقابلات

زيارة رئيس الجمهورية والدلالات الواقعية

“محاربة الفساد لا تكون بالشعارات، بل بإرادةٍ سياسيةٍ تحرّر القرار من نفوذ المصالح والولاءات.”

منذ الخطاب الذي أعلن فيه رئيس الجمهورية الحالي، فاتح مارس، نيّته الترشح، ارتفعت التطلعات وعمّ التفاؤل أوساطًا واسعة من الشعب، خصوصًا بين النخب المثقفة التي رأت في ذلك الخطاب بوادر تغييرٍ منتظر، لما حمله من نَفَسٍ صادقٍ وواقعيٍّ لامس هموم الناس ومشاغلهم.

غير أنّ الآمال التي صاحبت ذلك الخطاب سرعان ما تراجعت مع تشكيل أول حكومة، حيث برزت ملامح استمرار المنطق القديم القائم على توازنات القوى التقليدية، المتمثلة في مثلثٍ غير معلن: الجيش، القبيلة، ورأس المال.
وخلال المأمورية الأولى، تحوّل وباء كورونا وملف “فساد العشرية” إلى مبرّرين جاهزين لكل إخفاقٍ حكومي، فيما بقيت الوعود الإصلاحية حبيسة التصريحات، من تحسين أوضاع المتقاعدين والمدرسين إلى مراجعة منظومة العدالة ومحاربة الفساد.

المفارقة اللافتة أنّ الخطاب الرسمي لا يزال يتحدث عن الحرب على الفساد في الوقت الذي تُعاد فيه وجوه المنظومات السابقة إلى مواقع القرار. وقد كشفت زيارة الرئيس الأخيرة للحوض الشرقي هذا التناقض بصورةٍ أوضح، إذ تحولت المناسبة إلى استعراضٍ سياسي وإداري لرموزٍ بعضها متهمٌ في قضايا فسادٍ سابقة، وأخرى تستمدّ قوتها من نفوذٍ اجتماعي أو قبلي أكثر من الكفاءة أو الخبرة.

يزيد المشهد تعقيدًا ما يتسرّب من وقائع مؤسفة، مثل حادثة الموظف بوزارة الإسكان الذي عُثر عليه مشنوقًا في منزلٍ يُقال إنه ارتبط بعمليات بيعٍ غير قانونيةٍ لأراضٍ في حيّ تفرغ زينة الراقي. كما تتحدث تقارير عن تملك بعض النافذين لعقاراتٍ شاسعة وأراضٍ عامة، في ظلّ غياب تحقيقاتٍ شفافةٍ تُعيد الثقة إلى المواطنين.

في ظل هذه الأوضاع، يصعب إقناع الرأي العام بجدّية أي مشروعٍ لمكافحة الفساد ما لم يقترن بخطواتٍ عمليةٍ واضحة، أهمها الفصل بين أجهزة الدولة ومراكز النفوذ الاجتماعي، وإعادة الاعتبار للكفاءة والمساءلة كشرطين أساسيين في التعيين والتكليف.

لقد تغيّر وعي المواطن الموريتاني كثيرًا، ولم يعد سهل الانقياد بالشعارات أو الخطب الحماسية. فالشعب، وإن بدا صبورًا، بات أكثر قدرةً على التمييز بين الخطاب الإصلاحي الحقيقي وتكرار الأساليب القديمة في ثوبٍ جديد.
إنّ زيارة الرئيس الأخيرة، بما حملته من مؤشراتٍ وتناقضات، تعيد طرح السؤال الجوهري: هل نعيش مرحلة إصلاحٍ فعلي، أم إعادة إنتاجٍ لمنظومةٍ تُجيد تبديل الشعارات أكثر مما تُجيد بناء الدولة؟

زر الذهاب إلى الأعلى