“ديفايس” ابتكار ثوري يعيد بناء الوجه ثلاثي الأبعاد من الحمض النووي.. بين دقة علمية مذهلة وتحديات أخلاقية عميقة

في عصر تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات دقيقة لتحديد الهوية، يبرز الوجه البشري كأحد أهم السمات البيومترية التي تحمل بصمة جينية فريدة، مستخدماً تقنيات حديثة تجمع بين علوم الجينوم والذكاء الاصطناعي لإعادة بناء ملامحه من الحمض النووي مباشرة.
لطالما شكّلت ملامح الوجه مفتاحاً بصرياً للتعرف على الأفراد، ليس فقط في الحياة اليومية بل في مجالات دقيقة مثل الأدلة الجنائية، حيث تلعب الخصائص الشكلية دوراً محورياً في تحديد الهوية خاصة عند غياب الوسائل التقليدية.
مع تطور تقنيات التسلسل الجيني عالية الإنتاجية، توسّعت آفاق التعرف الجنائي لتشمل نهجاً طموحاً يعتمد على استخراج ملامح الوجه من الشيفرة الوراثية فقط. ورغم تعقيد الوراثة الوجهية وتأثير العوامل البيئية، تتوالى المحاولات لابتكار نماذج تحوّل الشيفرة الجينية إلى صور وجهية واقعية.
في هذا السياق، برز نموذج “ديفايس” (Difface) الذي طوره فريق من الباحثين في الأكاديمية الصينية للعلوم، والذي يستخدم تقنيات متقدمة من الذكاء الاصطناعي، منها نماذج الانتشار، والتعلم متعدد الوسائط، ومحولات (Transformers)، لإعادة بناء وجه الإنسان ثلاثي الأبعاد اعتماداً على بيانات الحمض النووي.
اعتمد “ديفايس” على تحليل آلاف المتغيرات الجينية (SNPs) وربطها بعمليات مسح ثلاثي الأبعاد للوجوه من أفراد عرق الهان الصيني، محققاً دقة عالية في توقع الملامح الوجهية، شاملة تأثيرات العمر، الجنس، ومؤشر كتلة الجسم.
ووفقاً للدراسة المنشورة في مجلة “أدفانسد ساينس”، أظهر النموذج قدرة مذهلة على إعادة بناء تفاصيل الوجه بدقة تصل إلى أقل من 3 مليمترات خطأ، مع قدرة كبيرة على التمييز بين السمات المختلفة عبر الفئات العمرية.
مع ذلك، يبقى النموذج محدوداً ببياناته الحالية من ناحية التنوع العرقي، ويحتاج لتوسيع قاعدة البيانات لضمان عدالة التوقعات عبر مختلف الأعراق.
إلى جانب الفوائد التطبيقية في الطب الشرعي، والطب الشخصي، والبحوث الجينية، يثير استخدام “ديفايس” تساؤلات جوهرية حول الخصوصية الجينومية، وإمكانية إساءة الاستخدام في أنظمة المراقبة البيومترية، خصوصاً مع قدرة التقنية على توليد ملامح من بيانات وراثية مجهولة الهوية.
وقد سبق أن أثار التصوير الظاهري الجنائي الجدل بعد حادثة في كندا عام 2022 حينما استخدمت الشرطة صورة مولدة حاسوبياً من الحمض النووي لمشتبه به، مما أثار انتقادات لضعف الشفافية ودقة النتائج.
وأكد الباحثون أن الجوانب الأخلاقية تعتبر ركيزة أساسية في تطوير “ديفايس”، مع ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية تضمن الاستخدام المسؤول لهذه التقنية، في ظل الحاجة الملحة لحوار متعدد التخصصات يوازن بين الابتكار العلمي وحماية الحقوق الفردية.
في النهاية، يمثل “ديفايس” نموذجاً متقدماً واعداً في فهم العلاقة بين الجينوم والملامح الوجهية، لكنه يطرح سؤالاً أساسياً: كيف يمكننا استثمار هذه القدرة الثورية بمسؤولية تامة تضمن احترام القيم الإنسانية والخصوصية؟