خطاب الكراهية في الفضاء الرقمي ودور النخب المثقفة في مواجهته

أصبحت منصات التواصل الاجتماعي في العصر الحديث فضاءً رحبا لتداول الآراء والأفكار، ومجالًا لتشكيل الوعي الجماعي وصناعة الرأي العام. غير أن هذا الفضاء، بما يتيحه من حرية وسرعة في النشر والتأثير، أفرز في المقابل ظواهر سلبية تمسّ القيم المجتمعية، من أبرزها تفشي خطاب الكراهية والعنصرية بمختلف أشكاله. فالمتصفح لهذه المنصات يلحظ بوضوح انتشار لغة الإقصاء والتمييز، وتنامي الخطاب القائم على الانتماءات الفئوية والشرائحية، بما يغذي النزعات الانقسامية ويهدد السلم الاجتماعي ووحدة الكيان الوطني.
تكمن خطورة هذا الخطاب في قدرته العالية على الانتشار والتأثير، خصوصا بين فئة الشباب التي تشكل الشريحة الأكثر تفاعلا مع الفضاء الرقمي. ومع مرور الوقت، يتحول هذا النمط من الخطاب إلى آلية لإعادة إنتاج الصور النمطية السلبية، وترسيخ مظاهر التباعد الاجتماعي، بما يسهم في إضعاف منظومة القيم المشتركة، ويخلق بيئة خصبة للتنافر بدل التفاهم.
وفي مواجهة هذه الظاهرة، يبرز دور النخب المثقفة بوصفها الفاعل الأكثر قدرة على توجيه الوعي العام وصناعة الرأي الرشيد. فالمثقف ليس مجرد ناقل للمعرفة أو مراقب للواقع، بل هو ضمير المجتمع، يحمل مسؤولية الدفاع عن قيم العدالة والاعتدال، ونشر ثقافة الحوار والتسامح. إن غياب هذا الصوت الواعي عن فضاءات التواصل يفتح المجال أمام أصحاب الخطابات المتطرفة، ويجعل المنصات الافتراضية أداة لتأجيج الخلاف بدل أن تكون وسيلة لبناء الجسور بين مكونات المجتمع.
ومن هذا المنطلق، فإن من الضروري أن يتحول الفضاء الرقمي إلى مجال للتربية على المواطنة الرقمية، وإلى منبر لترسيخ ثقافة احترام التنوع والاختلاف، بوصفهما مصدر ثراء للمجتمع لا سببًا لانقسامه. ويتحقق ذلك من خلال تفعيل دور المثقفين، والإعلاميين، والباحثين، والمؤسسات التربوية، في إنتاج خطاب بديل يقوم على الموضوعية والعقلانية، وينأى عن الإثارة والانفعال.
إن مواجهة خطاب الكراهية مسؤولية مشتركة، تتكامل فيها جهود الدولة والمجتمع المدني والنخب الفكرية والإعلامية. فالمجتمعات التي تسعى إلى حفظ وحدتها واستقرارها مطالبة بأن تجعل من محاربة الكراهية والعنصرية جزءا أصيلا من مشروعها الثقافي والتربوي. فالأمن الفكري، شأنه شأن الأمن المادي، يمثل أحد أعمدة السلم الاجتماعي والاستقرار الوطني.
وخلاصة القول، إن التصدي لخطاب الكراهية في الفضاء الرقمي ليس مجرد استجابة ظرفية، بل هو مشروع وطني طويل المدى، يستهدف حماية النسيج الاجتماعي وتعزيز قيم العدل والإنصاف. وإن النخب المثقفة، بما تملكه من أدوات الفكر والمعرفة، مدعوة اليوم إلى أن تنهض بدورها التاريخي في ترميم ما تفتق من نسيج المجتمع، وتوجيه الخطاب العام نحو ما يوحد لا ما يفرق، وما يبني لا ما يهدم. فبقدر ما نحصّن الوعي ونرسخ ثقافة الاحترام المتبادل، نصون حاضرنا ونؤسس لمستقبل يسوده السلم والوئام.
محمد محمود العيل








