حين يصبح الخبز ساحة إعدام جماعي: غزة بين فكي الجوع والرصاص

في مشهد يُعدّ من أقسى صور الحروب الحديثة، يُستهدف المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة أثناء وقوفهم في طوابير انتظار للحصول على كيس طحين أو سلة غذائية. لا يُطلق الرصاص على مقاتلين، بل على الجوعى الباحثين عن البقاء. من شارع الرشيد إلى تقاطع نتساريم، تتكرر المجازر دون حسيب أو رادع، لتتحول المساعدات الإنسانية من طوق نجاة إلى فخ للموت الجماعي. هذا التقرير يغوص في خلفيات هذا الاستهداف، ويفكك أبعاده السياسية والعسكرية والأيديولوجية، وسط صمت دولي مثير للقلق.
غزة.. حين يتحول الجوع إلى سلاح قتل
لم تعد الحرب في غزة تُخاض بالصواريخ والمدافع فحسب، بل بات التجويع أحد أخطر أدواتها. يومياً، يُقتل العشرات من الفلسطينيين أثناء سعيهم وراء رغيف خبز أو كيس دقيق. ووفق ما أعلنته الجهات الصحية في غزة، فإن أكثر من 516 مدنياً سقطوا منذ بدء تنفيذ “آلية المساعدات الأميركية الإسرائيلية” في 27 مايو/أيار 2025، بينما أصيب أكثر من 3700 آخرين، كثير منهم بجروح خطيرة.
هذه المجازر المتكررة لا تأتي في فراغ. فوفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية بتاريخ 12 مارس/آذار 2024، “تستخدم إسرائيل التجويع كسلاح حرب ممنهج، في انتهاك صارخ للقانون الدولي وجريمة موثقة”. أما المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، فقد وصف ما يجري بأنه “تحطيم منظم للحياة وتجويع قسري لا يمكن تبريره”.
نقاط الموت.. توزيع المساعدات تحت السيطرة النارية
منذ أواخر مايو/أيار 2025، فُعلت آلية توزيع مساعدات تعتمد على نقاط برّية محددة مثل تقاطع الرشيد وغرب رفح، تم إنشاؤها بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي وتروج لها على أنها “ممرات إنسانية”. لكن هذه النقاط في الواقع تخضع لرقابة نارية دقيقة، وغالباً ما تتحول إلى ساحات قنص وقصف بمجرد تجمع الناس.
لماذا يُقتل منتظرو المساعدات؟
يرى خبراء أن استهداف هذه الطوابير يخدم أهدافاً متعددة:
- التجويع كسلاح سياسي وعسكري
تحاول إسرائيل إخضاع المجتمع الفلسطيني باستخدام الجوع كوسيلة للتركيع، وربط المساعدات بالقبول بشروط الاحتلال. - تبريرات أمنية واهية
تبرر قوات الاحتلال إطلاق النار بالادعاء بوجود “تهديد أمني”، رغم أن غالبية الشهداء من المدنيين العزّل، كما تؤكد تقارير حقوقية وشهادات ميدانية. - عقاب جماعي وسط إفلات من العقاب
استمرار هذه الجرائم يعكس سياسة العقاب الجماعي، ويستند إلى دعم سياسي وعسكري غربي يوفر لإسرائيل مظلة من الحصانة الدولية. - تفكيك المجتمع الفلسطيني
الهدف الأعمق هو تحطيم النسيج المجتمعي في غزة، وكسر إرادة السكان، وتحويل المساعدات إلى أداة تحكم وإذلال.
الرواية الإسرائيلية: أخطاء ميدانية أم سياسة ممنهجة؟
تنفي إسرائيل استهداف المدنيين عمداً، وتُرجع الحوادث إلى “أخطاء تقديرية” أو “وجود مسلحين”. لكن صحيفة هآرتس كشفت في 10 يونيو/حزيران أن التعليمات العسكرية تسمح بإطلاق النار في محيط التجمعات الإنسانية عند وجود “اشتباه”، وهو ما يُعدّ تفويضاً ميدانياً بالقتل دون تمييز.
شهادات ميدانية: إطلاق نار مباشر على الجوعى
وثقت هيومن رايتس ووتش في تقرير لها بتاريخ 5 يونيو/حزيران حالات قتل تمت دون أي اشتباك مسلح. وفي شهادة صادمة، قال الطبيب الأميركي ثائر أحمد، الذي عمل في مستشفى ناصر بخان يونس، إن الإصابات التي شاهدها تدل على “استهداف دقيق لأماكن قاتلة في الجسد”، مضيفاً أن بعضها نُفذ بطائرات مسيرة استهدفت حتى الطواقم الطبية.
الأيديولوجيا وراء سلاح التجويع
رغم عدم وجود فتوى دينية مباشرة تبرر قتل الجائع، إلا أن البنية الأيديولوجية للدولة العبرية -بحسب باحثين- تعتبر الفلسطينيين “عقبة ديمغرافية” يجب تحييدها. تصريحات حاخامات متطرفين، مثل دوف ليئور، تعكس هذه الرؤية حين قال: “لا فرق بين المدني والمقاتل في الحرب”.
وفي الخطاب السياسي الإسرائيلي، غالباً ما يُوصم الفلسطينيون بأوصاف تحقيرية كـ”الحيوانات البشرية”، مما يكرّس منطق نزع الإنسانية، ويحوّل المدني الجائع إلى هدف عسكري مشروع في العقلية الأمنية الإسرائيلية.
دور الغرب: صمت أخلاقي أم شراكة غير معلنة؟
رغم التصريحات الغربية القلقة، فإن التنسيق اللوجستي مع إسرائيل لاستمرار آلية المساعدات، يجعل من كثير من الحكومات الغربية شريكة، بصمتها أو دعمها، في هذا المسار الدموي. وتصف الباحثة إليزابيث بروسيت هذا الواقع بقولها: “الخبز الممنوح تحت شروط الاحتلال أصبح رمزاً لانهيار النظام الأخلاقي الدولي”.
القانون الدولي: جريمة حرب موثقة
يُجمع خبراء القانون الدولي على أن استهداف المدنيين أثناء بحثهم عن الغذاء يرقى إلى جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. استخدام التجويع كسلاح يخرق مبادئ التمييز والتناسب، ويشكّل انتهاكاً خطيراً للمعايير الإنسانية الدولية.
خاتمة: حين يُقتل الإنسان من أجل كسرة خبز
في غزة اليوم، بات الخبز يُكلف الحياة. يموت الإنسان الفلسطيني ليس فقط من القصف، بل من الجوع، ومن الانتظار في طابور قد يتحول إلى مقبرة جماعية. السؤال الذي يواجه ضمير العالم: إلى متى سيبقى العد مستمراً؟ ومتى يتوقف القتل؟