حين يصبح الإنقسام سياسة دولة

لا شيء أخطر على الشعوب من أنظمة تجعل من التفرقة استراتيجية للبقاء.
فبدلاً من بناء الوحدة الوطنية، تتمترس تلك الأنظمة خلف سياسات التمزيق الطبقي والاجتماعي، وتوظفها كدرعٍ لحماية سلطته.
إنها أنظمة لا تخشى الانهيار بقدر ما تخشى الوعي، لأن وعي الشعوب هو بداية سقوط الطغاة.
تغييب الطبقة الوسطى: هندسة الإفقار المقصود
حين تتلاشى الطبقة الوسطى، يتداعى التوازن الاجتماعي كله.
النظام الذي يُضعف هذه الطبقة ويُغذي الفجوة بين الفقراء والأغنياء، إنما يصنع عمداً مجتمعا مشلولاً لا يُقاوم.
الفقير يُدفع أكثر نحو القاع،
والغني يُرفع أكثر نحو القمة،
وبينهما تنهار العدالة وتُدفن الكفاءة.
الزبونية تحل محل الكفاءة، والولاء محل الجدارة.
بهذا الشكل، يتحول المواطن إلى تابع، والمؤسسة إلى شبكة مصالح مغلقة.
توريث المناصب واغتيال العدالة الاجتماعية
لقد صار التعيين والترقية في مؤسسات الدولة مرهونين بالولاء لا بالكفاءة.
تُوزّع المناصب كما تُوزّع الغنائم، وتُدار الوظائف بمنطق “من معنا لا من يصلح”.
وفي ظل هذا العبث، يُقتل الأمل في جيلٍ قادر على خدمة وطنه بضمير.
بل إن النظام التعليمي نفسه أُعيد تشكيله ليفرز الخضوع لا الإبداع،
ويُنتج موظفين مطيعين لا مواطنين أحراراً.
خطاب الكراهية: السلاح الصامت لتفكيك الشعب
من أخطر أدوات بقاء هذه الأنظمة أنها تجند أبناء الشعب ضد بعضهم البعض.
يُغري البعض بمنافع آنية ليشيعوا خطاب الكراهية والتشكيك والانقسام.
إنها سياسة “فرّق تسد” بأكثر صورها خبثاً،
تُوسّع الشرخ بين الفقراء والمهمشين كي لا يدركوا أن قوتهم في وحدتهم.
“ابقوا منقسمين… كي نبقى حاكمين.”
هذه الجملة غير المعلنة تلخص جوهر العقلية الحاكمة.
الفقراء إذا اتحدوا… سقطت الأسوار
حين يعي الفقراء قوتهم، تتغير المعادلة كلها.
فإذا توحدت الشرائح المسحوقة من العمال والفلاحين والمهمشين فسيشكّلون أكثر من تسعين في المائة من الشعب.
وهذه الكتلة البشرية الهائلة كفيلة بقلب أي نظام،
حتى لو استمر في شراء الضمائر وتزوير الإرادة الشعبية.
إنهم الأغلبية الصامتة التي إن نطقت، تغيّر وجه التاريخ.
الطبقة الوسطى وأهميتها في الهرم الإجتماعي
تمتلك الطبقة الوسطى موقعاً خاصاً في الهرم الاجتماعي يجعلها أقرب إلى قيادة الوعي الجمعي.
لكن النظام أدرك هذا الخطر مبكراً،
فعمل على تفكيكها من الداخل، عبر استقطاب رموزٍ منها،
وربط مصالحها بمراكز النفوذ.
هكذا نشأت طبقة انتهازية صغيرة
تتبرم من “الدهماء” وتنفر من الاصطفاف الشعبي،
لكنها لا تمثل سوى أقليةٍ تائهة بين الامتياز والخوف.
أما الأغلبية فما تزال تحمل جرح التاريخ وإرادة التغيير.
الوعي طريق الخلاص
الأنظمة لا تُهزم بالقوة فقط، بل بالوعي أولاً.
حين يدرك الناس أن الفقر ليس قدراً بل صناعة سياسية،
وأن التفرقة ليست طبيعة بل أداة سلطة،
حينها فقط يبدأ التغيير الحقيقي.
الوعي هو المعركة الكبرى،
فمن يكسبها، يكسب المستقبل.
خاتمة
ما من نظامٍ يزرع الكراهية ويُفقِر شعبه ويورّث الوظائف إلا وهو يعيش مرحلة الدفاع عن نفسه لا بناء الدولة.
والشعوب حين تصحو، لا تُبقي لظلمٍ أثراً.
فالوحدة التي يخشاها المستبد، هي وحدها طريق الخلاص.
حمادي سيدي محمد آباتي