رأي آخر

حين يركب الذئب صهوة الجواد ويسود الغراب أسراب الصقور

عدالة الأرض مذ خُلقت مزيفة
والعدل في الأرض لا عدل ولا ذِمم
فالخيرُ حملٌ وديعٌ طيّبٌ قلق
والشرُّ ذئبٌ خبيثٌ ماكرٌ نهم

هكذا يُصوّر الشعر عالماً مقلوبًا، تختلّ فيه الموازين وتُعكَر فيه ينابيع القيم. عالمٌ لا يُحتَرَم فيه الخير، ولا يُؤمَن فيه للعدل، ولا يُكرَّم فيه أصحاب العلم والمروءة. بل تُفتح فيه الطرق أمام الذئاب، وتُمنح مفاتيح المجد للغربان، ويتسلق السلالم أحقر الناس لأنهم يُجيدون الزحف والنفاق.

قد يعتلي ظهر الجياد ذئاب
ويقود أسراب الصقور غُراب
ويسود رجّافٌ بمَحفل قومه
وعليه من حُلَل النفاق ثياب

إنّ ما نشهده اليوم في مجتمعاتنا، خصوصًا في بعض البلدان التي لم تفرغ بعد من آثار الاستعمار ولم تنضج فيها مؤسسات الدولة على أسس قيمية متينة، هو صورة واقعية لهذا المشهد الشِّعري العاصف. فمظاهر انحدار القيم لا تخطئها عين، ولا يملك الحرّ أن يطمئن في ظل سطوة “السفلة الراقصين” — أولئك الذين لا يحملون مؤهلات سوى قدرتهم على التلوّن، وموهبتهم في تسويق الوهم، وتزيين القبح.

لقد غابت المعايير الحقيقية التي تبنى بها الأوطان. صار المعلم محتقرًا، رغم أنه أساس النهضة، وصار الطبيب ذليلاً في وطن يحتاج إلى رعايته، وأُقصي العالِم والمفكر لأنه لا يُجيد التصفيق. وفي المقابل، تجد الاحترام يُمنح لأصحاب الألسنة الطويلة، والمنافقين الذين يحسنون لعبة الولاء المصطنع والتمسّح بأعتاب أصحاب القرار.

وتَرى الأسفل قد تعالى مجدُهم
والحرّ فردٌ ما له أصحاب

من كان يُنظر إليهم ذات يوم ككفاءات مرشحة للقيادة، إما انزلقوا للدفاع عن اللصوص وأصحاب الثروات المجهولة، أو ابتلعهم الصمت والخوف، في مشهد يترجم انسفال الهمم وانهيار القيم. ما عادت القيادة مرتبطة بالخبرة أو الكفاءة، بل بتزكية من شبكات المصالح والولاء الأعمى. هذا الانحدار لا يعبّر فقط عن أزمة سياسية، بل هو أزمة حضارية شاملة، تُنذر بتآكل القيم الأساسية التي تحفظ للمجتمع توازنه.

لقد تغيّر الذوق العام، واختلطت المعايير، حتى صار التافهون نجومًا، والراقصون قادة رأي، والمهرّجون فلاسفة. وبات أصحاب الأخلاق يُنظر إليهم كأنهم من زمنٍ آخر، لا مكان لهم في السوق الجديد، الذي تُتداول فيه أرصدة النفوذ بدلًا من رصيد الأخلاق والمعرفة.

ما يحتاجه المجتمع اليوم ليس فقط إصلاحًا مؤسسيًا أو تغييرًا شكليًا في النُّخَب، بل نهضة أخلاقية تستعيد مكانة المعلّم والعالم والحر الشريف، وتضع حدًّا لزمنٍ يقود فيه الغراب أسراب الصقور، ويعلو فيه النباح فوق صوت الحكمة.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى