ثقافة

حين يتحول الوطن إلى شركة خاصة: لحظة الانكسار الجماعي في موريتانيا

بقلم: حمادي سيدي محمد آباتي

يقول المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري:

“حين يدرك الناس أن الدولة تدار لحساب نخبة وليست لحساب الأمة، يصبح الفرد غير قادر على التضحية من أجل الوطن، وينصرف للبحث عن مصلحته الخاصة.”

هذه العبارة ليست تأملاً نظريًا، بل تشخيص دقيق للحظة سقوط المعنى في المجتمعات حين تُختزل الدولة في نخبة صغيرة تحتكر القرار والثروة والمكانة. إنها ما يسميه المسيري “لحظة الانكسار الجماعي”، حين يكتشف المواطن أن الوطن الذي طالما تغنّى به لم يكن سوى آلة لخدمة قلة متسلطة، لا عقدًا أخلاقيًا جامعًا بين الدولة والمجتمع.

الوطن حين يتحول إلى شركة مساهمة

عندما تتحول الدولة إلى ما يشبه شركة خاصة، توزع الأرباح على مجموعة محدودة وتترك الخسارة لبقية الشعب، يصبح الانتماء عبئًا لا شرفًا. تنهار القداسة التي كانت تحيط بفكرة الوطن، وتذوي الحماسة التي كانت تدفع الأفراد لبذل حياتهم في سبيله.
فـالدماء لا تسفك من أجل أوطان مصادرة، بل من أجل قيم يتقاسمها الجميع. وعندما تتآكل تلك القيم، يصبح البقاء الفردي هو الغريزة الأخيرة وسط الخراب المؤسسي.

موريتانيا ومؤشرات الخطر

لقد لاحظت — وأنا الشيخ المتقاعد الذي شهد أجيالاً من التحولات — أن معظم المؤشرات التي تحدث عنها المسيري قائمة اليوم في بلدي موريتانيا:

توريث الوظائف وكأنها إرث عائلي لا مسؤولية عامة.

احتكار التعليم الجيد لأبناء النخبة، بينما يُترك أبناء الشعب لمصير المدارس المهترئة.

السيطرة على الجيش ومفاصل القوة لصالح أبناء الضباط، مما يكرّس منطق الولاء العائلي بدل الولاء الوطني.

تحول مؤسسات الدولة إلى أدوات للترضية والصفقات، لا للعدالة والكفاءة.

تتغذى هذه الممارسات على نظام محاصصة غير معلن، يقسم الوطن إلى دوائر مغلقة تتحكم فيها مصالح ضيقة، فيما يُترك المواطن العادي متفرجًا على مشهد يتكرر منذ عقود.

الإحباط المتسلل إلى النخبة

الأخطر من كل ذلك هو ما أصاب النخبة ذاتها.
لقد تسلل الإحباط إلى من يفترض أنهم حملة مشعل الإصلاح:

فبعضهم تنازل عن شرفه وكبريائه طمعًا في نصيب من الكعكة، عبر النميمة والتزلف والنفاق.

وآخرون اتخذوا من التنوع العرقي وسيلة للاتجار بالمظلومية، لعلّهم يُسكتون برشوة من هذا الطرف أو ذاك.

وهناك من اختار الصمت القاتل، بعد أن أيقن أن الكلام لا يُسمع، وأن المصلحة الخاصة أضمن من المصلحة العامة.

هكذا، تذوب الوطنية في بحر من اللامبالاة الممزوجة بالخيبة، وينكمش الحلم الجماعي إلى مجرد سعي فردي للنجاة.

العقد الاجتماعي المنكسر

الوطن، كما قال المسيري، ليس أرضًا تُحكم، بل عقدًا أخلاقيًا.
وحين يتكسر هذا العقد، لا يبقى هناك وطن بالمعنى المعنوي، بل مسرح تُدار فيه لعبة السلطة باسم الأمة وهي غائبة.
فما جدوى الشعارات الوطنية إذا كانت العدالة غائبة؟
وما قيمة التضحية إذا كان العدل نفسه غريبًا في وطنه؟

دعوة إلى رتق الفتق

لهذا أقول — بلسان من عاش التجربة لا من قرأها — إن الفتق قد اتسع على الراتق.
لكن الأمل لا يزال ممكنًا إن تجرأ من بقي من المخلصين على قول الحقيقة، وإن وُجد من يملك شجاعة الإصلاح لا إرادة السيطرة.
فالوطن لا يُرمم بخطابات الولاء، بل بإعادة بناء العقد الأخلاقي بين الدولة والمجتمع على أساس من العدالة والمواطنة والشفافية.

🔹 خاتمة: بين الخوف والرجاء

موريتانيا، هذا الوطن الغني بثرواته الباطنية والمتجددة، لا ينقصه المال ولا الرجال، بل الإرادة الجماعية الصادقة.
إن ما نعيشه اليوم ليس نهاية الطريق، بل تحذير تاريخي: فإما أن نستعيد روح العقد الوطني، أو نتحول جميعًا إلى متفرجين على مسرحية اسمها الدولة، يؤديها ممثلون فقدوا الإيمان بما يمثلونه.

زر الذهاب إلى الأعلى